إن هذا القيد الذي ربطوا به الاحتجاج بالقرآن الكريم جلب لمنهجهم في التقعيد نقوداً لاذعة، وجعله مجالاً لتحاملات واسعة النطاق والآفاق من قبل العلماء قديماً وحديثاً، فها هو الإمام الظاهري الفقيه اللغوي الأديب المحدِّث ابن حزم ـ يوسعه جانب النقد والانتقاد قائلاً:
«.. من النحاة من ينتزع من المقدار الذي يقف عليه من كلام العرب حكماً لفظياً، ويتخذه مذهباً ثـم تعرض له آية على خلاف ذلك الحكم، فيأخذ في صرف الآية عن وجهها.. ولا عجب أعجب ممن إن وجد لامرىء القيس أو لزهير أو لجرير أو الحطيئة أو الطرماح، أو لأعرابي أسديٍّ أو سلميٍّ أو تميميٍّ أو من سائر أبناء العرب لفظاً في شعرٍ أو نثرٍ جعله في اللغة، وقطع به، ولم يعترض فيه، ثـم إذا وجد للـه تعالى خالق اللغات وأهلها كلاماً لـم يلتفت إليه، ولا جعله حجة، وجعل يصرفه عن وجهه، ويحرِّفه عن موضعه، ويتحيل في إحالته عما أوقعه اللـه عليه..»(20). وأما الرازي، فقد عبَّر عن دهشته من هذا المنهج المعوَّج، فقال:
«.. إذا جوَّزنا إثبات اللغة بشعر مجهولٍ، فجواز إثباتها بالقرآن العظيم أولى، وكثيراً ما ترى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريرها ببيت مجهولٍ فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم، فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقها دليلاً على صحتها، فلأن يجعلوا ورود القـرآن الكريم دليــلاً عـلى صحـتها كان أولى..»(21) وأما الدكتور الأنصاري، فقد تحامل عليهم تحامُّلاً مبالغاً، وشدَّ نكيره عليهم أيما شدَّة فقال:
«.. ألا ترى معي أن النحويين بوجه عامٍّ ولا سيما البصريين قد جاوزوا الحدَّ المعقول، وأسرفوا على أنفسهم في اللغة وفي الدين.. فأي منهجٍ لغويٍّ سليمٍ يهدر قدراً كبيراً من شواهدها الموثوق بها دون أن يدخلها تحت القاعدة العامة؟ ولو كان إدخال هذه الشواهد يهدم القواعد هدماً تاماً إذاً لالتمسنا لهم المعاذير.. وقلنا إن اللغة تحتاج إلى شيءٍ من التقعيد.. وكل الذي يحدث هو ان تتسع القاعدة فتشمل جميع الوارد من الشواهد... ولكن العصبية تعمي وتصمُّ.. فلا يسمع المتعصبون نداء العقل والدين والمنهج السليم..!»(22)
وأما المحقِّق الشيخ سعيد الأفغاني، فقد وصف هذا الاضطراب المنهجي هازئاً عندما قال:
«.. يريدون بناء قواعدهم ـ يقصد البصريين ـ على كلام العرب، فيجمعون نتفاً نثرية وشعرية من هذه القبيلة ومن تلك، ومن أعرابي في الشمال إلى امرأة في الجنوب، ومن شعر لا يعرف قائله إلى جملة غير منسوبة، يجمعون هذا إلى أقوال معروفة مشهورة، ويضعون قواعد تصدق على أكثر ما وصل إليهم بهذا الاستقراء الناقص الذي لا يستند إلى خطَّة محكمة في الجمع، ثـم يسدِّدون هذه القواعد بمقاييس منطقية يريدون اطرادها في الكلام، حتى إذا أتت بعضهم قراءة صحيحة السند تخالف قاعدته القياسية طعن فيها، وإن كان قارئها أبلغ وأعرب من كثير ممن يحتج النحوي بكلامهم!! فلا استقراؤه كاملٌ أو كافٍ، ولا لشواهده التي استند إليها بعض ما للقراءة الصحيحة من القوة، ولا اللغة تخضع للمقاييس المنطقية التي ابتدعها..»(23) ولئن كان ذلك هو موقفهم من مصدرية القرآن بقراءاته المتواترة وغير المتواترة في التقعيد، فماذا عسى أن يكون موقفهم من الحديث النبويِّ، وخاصّة أنَّ النصَّ القرآنيَّ قد أوفى على قمة الفصاحة والبلاغة والبيان، وانتقى في أسلوبه فصحى لهجات القبائل سواء كانوا من أكلة اليرابيع أو من باعة الكواميخ، ولكن مع كل ذلك كان لهم من ذلك المواقف غي ر المشرِّف، فماذا عسى أن يكون موقفهم من الحديث النبوي والحال كذلك؟
4) الحديث النبوي والتقعيد النحوي: وأما الحديث النبويُّ الشريف، فقد استبعده نحاة البصرة ـ عن بكرة أبيهم ـ جملةً وتفصيلاً من دائرة الاحتجاج والاستشهاد به، واختلقوا لذلك عذراً يعوزه الدقة والسلامة، والسداد، فقالوا إنَّ من الثابت كون الحديث النبويِّ يروى بالمعنى حيناً، وباللفظ حيناً آخر، ونظراً لتعذُّر معرفة المرويِّ منه بالمعنى من المرويِّ باللفظ تجاوزا الاحتجاج بأي حديث نبوي مطلقاً تغليباً لجانب الرواية بالمعنى على جانب الرواية باللفظ، وفي ذلك يقول أبو الحسن بن الضائع في شرح الجمل معلِّلاً ومدافعاً عن نحاة البصرة ومن سار على نهجهم في في هذا الموضوع: «.. تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب، ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ لأنه أفصح العرب..»(24). وأما أبو حيان، فقد دافع وعلَّل عدم الاحتجاج بالحديث النبوي قائلاً: «..إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم أنَّ ذلك لفظ رسول اللـه ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ إذْ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلَّية، وإنما كان ذلك لأمرين: أحدهما أنَّ الرواة جوَّزوا النقل بالمعنى.. الأمر الثاني أنه وقع اللحن كثيراً فيما روي من الحديث، لأنَّ كثيراً من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون ذلك...» (25)
إذاً، خلاصة القول هي أنَّ مدرسة البصرة اكتفت باعتماد لغة القبائل البدوية غير المتاخمة للأمم الأجنبية ـ نثراً وشعراً ـ مصدراً للقياس كما اعتمدت اعتماداً صوريّاً على صريح النقل من القرآن الكريم الذي يشهد له شعر أو كلام من لغة القبائل البدويَّة غير المختلطة بالأمم الأجنبية. وأما الحديث النبوي، فقد تجاوزوه، ورفضوا الاحتجاج به والتقعيد عليه. وبناءعلى ما سبق، فإنه يمكننا القول بأنَّ لقياس المدرسة البصريَّة في واقع أمرها مصدرين: أحدهما مصدر أصيل ووحيد وهو لغة القبائل البدوية التي لـم تختلط بالأمم الأجنبية، وأما الآخر، فهو ثانويٌّ، وهو القرآن الكريم وبتعبير آخر بعض قراءات القرآن التي يشهد لها شعر أو كلام منثور من لغة تلك القبائل البدوية الخلّص.
رابعاً: المنهجية البصريَّة في التقعيد ودورها في نشأة المدارس النحويَّة الأخرى: تلك هي المنهجية التي انتهجتها مدرسة البصرة في التقعيد، وقد لقيت قبولاً لدى جماعة من النحاة. كما حظيت بالمقابل بجملة من الانتقادات المنهجيَّة والعلميَّة عند كثيرٍ من العلماء المحقِّقين، شأنها في ذلك شأن كل المناهج البشرية التي تخضع للاختبار والتجريد. وأما أهمُّ الانتقادات المنهجيَّة التي تؤخذ على هذه المدرسة، فيمكن حصرها في ثلاثة أخلالٍ، وهي:
أ ـ الاستقراء الناقص الجليِّ لمصادر التقعيد المعتمدة لدى المدرسة، سواء على مستوى المصدر الأصلي وهو لغة قبائل البدو، أو على مستوى المصدر الثانوي وهو بعض قراءات القرآن المتواترة، إذْ إنه قد فاتت المدرسة جملة من لهجات قبائل البدو، كما فاتتها جملة أخرى من القراءات المتواترة والآحاد.
ب ـ اعتماد المدرسة تصنيفاً معكوساً لمصادر التقعيد، إذْ إنها لـم تراع في التصنيف قوة الفصاحة وضعفها في المصادر، ولذلك، فقد قدَّمت في الاحتجاج القبائل البدوية على قراءات القرآن المتواترة. والعكس صحيح، وذلك لأنَّه لا خلاف بين العلماء في كون لغة القرآن أفصح اللغات بلاغة وبياناً.
جـ ـ إبعاد المدرسة الحديث النبوي من دائرة الاحتجاج والاستشهاد اعتماداً على عذرٍ مفتعلٍ لا نصيب له في الواقع، وقد كان حريّاً بها التفريق بين الأحاديث المروية باللفظ والمروية بالمعنى، إذْ إنها لا تملك هي ولا غيرها أيَّ دليلٍ علميٍّ منضبط لإثبات هذه القضية الشائكة.
هذه هي أهم الأخلال المنهجية التي يمكن ملاحظتها في مصادر التقعيد في مدرسة البصرة، وغنيُّ عن القول بأنَّ كل خللٍ منها كافٍ لإيساع المدرسة وروادها جانب النقد والانتقاد، بل إنَّ كل خلل منها شاف في الدعوة إلى الاستغناء عن هذه المنهجية ذات الأخلال الخطيرة.
وعليه، فلا غرو أن تكون هذه الأخلال المنهجية مجتمعة ـ وخاصة الخللين الأولين ـ قد عجَّلت بميلاد مدرسة أخرى حاولت أن تتجاوز قدر الإمكان هذه الأخلال برمَّتها، إنها مدرسة الكوفة التي انتقلت بالمصدر الأصلي والمصدر الثانوي من الدائرة الضيقة، فوسعت من المصدر الأصلي، فاعتمدت في التقعيد على لغة عرب البدو حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وعلى لغة عرب الأرياف أكلة الشواريز وباعة الكواميخ. كما وسَّعت من دائرة المصدر الثانوي، فاعتمدت جلَّ القراءات القرآنية المتواترة ـ إن لـم يكن كلها ـ في التقعيد، وتبرأت من ضرورة وجود قيد وجود شاهد من شعر جاهليٍّ أو كلام بدويٍّ لصحة الاحتجاج بالقراءة القرآنية في إثبات صحة قاعدة نحويَّة.
ولكن لئن نجحت المدرسة الكوفية في تصحيح الخللين المنهجيين الأولين بعض الشيء، فإنها لـم تستطع التخلص من جميع أدرانهما، بل ظلت في بعض الأحيان متأثرة بترسبات المدرسة البصريَّة، فكان لها بعض المواقف الشبيهة بمواقف البصريين من بعض القراءات المتواترة، والسبب في عدم تمكن المدرسة الكوفية من التجرد الكلي من جميع رواسب المدرسة البصرية يعود إلى كون الكوفيَّة في واقعها مدرسة منبثقة من رحم البصريَّة، وكون كثير من رجالاتها خارجين على أساتذتهم البصريين. بل إنَّ المدرسة الكوفية بجميع فطاحلتها قفوا أثر المدرسة البصرية في الخلل المنهجي الثالث المتمثل في إبعاد الحديث النبوي من دائرة الاحتجاج والاستشهاد، وما حاولوا في شيء التخلص من هذا الخلل وتصحيحه كما صحَّحوا الخللين الأولين.
وتمضي الأيام حبلى، فيشاء المولى القدير أن ينتقل مقر الخلافة إلى الأندلس، فتنشأ على ربوعها حركة تقعيد نحويَّة تلعن كل المناهج التي لا تقدر كتاب اللـه ولا سُنّة رسوله ـ صلى اللــه عليه وسلم ـ حق قدرهما، فتدعو إلى ضرورة إعادة تقعيد القواعد في ضوء توجيهات وأساليب القرآن الكريم بقراءاتها المتواترة والآحاد، وفي ضوء أساليب الحديث النبوي الشريف، إضافة إلى كلام العرب بدويهم وريفيهم، ويمكن للمرء أن يتلمس هذا التوجُّه الجديد في منهجية رواد المدرسة الأندلسية كالنحويِّ الأندلسي الشهير ابن مضاء ـ رحمه اللـه ـ الذي قاد حركة تقعيد جديدة ثائرة ضدَّ حركات التقعيد البصريَّة والكوفيَّة بأسرها، بل يجد المرء هذا التوجه التجديدي في تجاوز سائر الأخلال المنهجية في التقعيد عند ابن مالك الذي تجاهَلَ تجاوز نحاة البصرة والكوفة الحديث النبوي مصدراً للتقعيد، فاتخذ منهجية ترى في الحديث النبوي مصدراً خصباً للتقعيد، بيْد أنه لـم يشأه أن ينصَّ على ذلك تنصيصاً، الأمر الذي جعل أبا حيَّان الأندلسي يتهمه بالابتداع ومخالفة النزعة السائدة لدى جبابرة النحو وأساطينه، فقال متذمِّراً:
«.. قد أكثر المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكليَّة في لسان العرب، وما رأيت أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره.. والمصنِّف قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر متعقباً بزعمه على النحويين، وما أمعن النظر في ذلك، ولا صحب من له التمييز..» ولا غرو أن يجد مثل هذا التوجه التجديدي طريقه مفروشاً بالورود في دولة الموحِّدين، وذلك لأن نزعة التجديد والاجتهاد في سائر المعارف الإسلامية عمَّت جميع الأرجاء، بل تسربت هذه النزعة إلى الدول الإسلامية الأخرى، فعلى مستوى ذات النزعة نشأت في مصر حركة تقعيد نحويَّة حاولت التخلص من الأخلال المنهجيَّة متمثلة في زعامة النحوي العلامَّة ابن هشام الذي قيل إنه كان أعلم بالنحو من سيبويه. ولئن تشابهت حركة التقعيد النحوية الأندلسية والمصرية، بيْد أنه من الإنصاف الإشارة إلى وجود فارقٍ بينهما على مستوى أسلوب تأسيس المنهجية الجديدة في التقعيد النحوي، إذ إنّه قد اتسم أسلوب جلّ رواد المدرسة الأندلسية في أكثر الأحيان بالهجوم والانتقاد الشديد اللاذع، وأما أسلوب المدرسة المصرية متمثلة في ابن هشام وغيره، فقد اتسم بانتهاج الأسلوب ال هادىء الفعال في عرض المنهجية الجديدة. وبناء على ذلك، فإنَّ الفرق الجوهريَّ بين الحركتين التجديديتين يتمثل ـ كما قلنا ـ في تميز الحركة الأندلسيَّة بالحرارة وروح اجتثاث ما بنته المدرسة البصرية خاصة من هرم حول القياس وتوسعاتهم في التأويلات والتخريجات (26).. وأما حركة التقعيد المصريَّة، فقد كانت تتسم بروح المراجعة الهادئة الفعَّالة المؤثِّرة.
لئن كتب اللـه لتلكما الحركتين التجديديتين في التقعيد شيئاً من النجاح، فإنِّهما لـم تقدرا على إزالة جميع آثار الأخلال المنهجية الثلاثة، ولم تقويا على محو نتائجهما في الأذهان إلى يومنا، مما يمكن القول بأنه على الرغم من كل المحاولات الجريئة الصريحة والخفيَّة في إقصاء المنهجية البصريَّة الملأى بالأخلال المنهجية عن ساحة التقعيد، فإنّها لا تزال ـ إلى يومنا هذا ـ منهجية متبعة في الدراسات النحوية، بل إن الكتب النحوية الحديثة تكاد تعتمد على نتائج تلك المناهج ذات الأخلال المنهجيّة في تعلم النحو، وتقريبه ـ عبثاً ـ إلى الأفهام والعقول. فدعوات ابن مضاء، وكثير من اجتهادات ابن هشام وابن مالك ـ رحمهم اللـه ـ ذهبت مع أدراج الرياح، ويكاد الزمان ان يضن بأمثالها.
فخلاصة القول هي أنَّ الأخلال المنهجية التي رافقت منهجية البصريين ـ منذ بداية نشأتها ـ في التقعيد النحوي قد كانت وراء نشوء المدرسة الكوفية التي استهدفت الإصلاح والتصحيح والتعديل والتقويم، كما أنّ عدم اكتمال دور التصحيح للأخلال البصريّة على يد الكوفيَّة قد مهَّدت لنشأة الأندلسية والمصرية فالشامية، بيْد أنَّ الأخلال المنهجية لـم تتمكن منها حركات الإصلاح إلى يومنا هذا تمكناً عميقاً جذرياً، مما يبرر تقديم منهجية بديلة قادرة على تجاوز تلك الأخلال المنهجية وآثارها على تعلم قواعد اللغة العربية من حيث التقعيد والتعسير والتجريد.
إنّ معالجة أي قصور أو خلل منهجيين في حركة التقعيد النحوي ينبغي أن تتم على مستوى المصادر التي أنتجت تلك القواعد وولَّدتها، ولذلك، فإننا نرى أنَّ تجاوز الأخلال المنهجية وآثارها يتم عن طريق الاستغناء عن التصنيف التقليدي مصادر التقعيد النحويّ التقليدية برمتها، وتبديلها باعتماد تصنيف منهجي آخر لمصادر التقعيد في ضوء ما أسلفناه بحيث تغدو مصادر التقعيد النحويّ مرتبةً حسب الترتيب التالي:
خامساً: نحو تصنيف منهجي لترتيب مصادر التقعيد النحوي من وجهة نظر أصولية :
1 ـ ـ المصدر الأول الملزم للتقعيد النحوي: لغة القرآن الكريم بجميع قراءاته المتواترة والآحاد:
لئن اعتبرت لغة القبائل البدوية غير المختلطة بالأمم الأجنبية أهمَّ مصدر للقياس النحوي عند نحاة مدرسة البصرة، فإن مرد ذلك ـ بلا شك ـ إلى مستوى الفصاحة الرفيع الذي كان غالباً على سكان البوادي، إضافة إلى بعدهم عن مواطن اللحن بسبب عدم الاختلاط بأية أمةٍ أجنبيةٍ أخرى.
وبناءً على ذلك، فإنَّ المنهج العلمي الرصين يقتضي ضرورة الالتزام بهذا المبدأ في كل الأحوال بحيث يتم التفاضل بين مصادر التقعيد على أساس مستوى قوة الفصاحة وتمكنها، فتقدَّم لهجة قبيلة على لهجة قبيلة أخرى إذا كانت لهجة الأولى أفصح من الثانية، فالعبرة في التقديم والتأخير تكمن في مستوى الفصاحة وعدم اللحن، وليست العبرة في سكنى البادية أو الحضر أو غير ذلك في واقع الأمر.
وإذ الأمر كذلك، فللمرء أن يتساءل عن مدى وجود لغةٍ أفصح من القرآن الكريم، فإذا ما ألفيناها قدَّمناها واعتمدناها مصدراً أولاً للتقعيد النحويِّ والاحتجاج. وللإجابة عن هذا التساؤل يمكن القول بأنه قد كانت للهجات بعض القبائل قبل نزول القرآن الكريم مكان الصدارة، وما كان في الإمكان العثور على أية لهجة أفصح من لهجاتها، بيْد أنَّ هذا الأمر لـم يعد وارداً ولا قائماً بعد نزول القرآن الكريم، وبعد اشتماله على لهجات تُكوِّن في مجموعها فصحى لهجات القبائل البدوية والريفية، فغدت لغة القرآن أفصح لغةٍ لا تدانيها لغة أية لغة في الفصاحة والبيان والبلاغة، وتحدث فصحاء العرب وبلغاءهم بدوييهم وريفييهم على أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عجزاً أبدياً على قبول التحدي.
بناءً على ذلك، فإنَّ المنهج العلمي يقتضي تقديم لغة هذا الكتاب الكريم عند الاحتجاج والاستشهاد والتقعيد على جميع لغات القبائل سواء أكانوا أكلة يرابيع أم كانوا باعة كواميخ، وذلك لأن لغته تمثل اللغة الفصحى التي لا يمكن أن تجارى أو تضاهى لتألفها ـ كما أسلفنا ـ على فصحى لهجات القبائل العربية. ولئن اقتضى الالتزام بالمنهج العلمي المذكور أن يكون مصدر التقعيد النحويّ الأول والأصيل هي اللغة القرآنية الفصحى بحيث يتم تقديم الاحتجاج بها على لهجات تلك القبائل.
2ـ المصدر الثاني للتقعيد النحوي: الحديث النبوي الصحيح بشقيه: المروي بلفظه ومعناه، والمروي بالمعنى دون اللفظ:
من المتفق عليه أنَّ الرسول ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ أفصح من نطق بالضاد، ولا يمكن قياس فصاحته على فصاحة أحدٍ من العرب سواء كانوا بدواً أو ريفيين، ويكاد أن يكون الإنسان العربي الوحيد الذي لـم يسجَّل عليه لحنٌ قطٌ، ولم يمازج لغته ضعفٌ أو وهنٌ أبداً، فقد أوتي جوامع الكلم، ورزق بياناً كان له عوناً في الإقناع والتبليغ والتأثير، كما زاده الوحي الإلهي المتمثل في القرآن الكريم قبل كل ذلك فصاحةً وبياناً كان يبهر بهما السامع، ويؤثر بهما في المخاطب. ومن مجموع ما تحدَّث به المصطفى ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ يتكون ما يطلق عليه بالحديث النبوي الشريف، وهو عبارة عن أقواله الشريفة خاصّة وعن أفعاله وتقاريره عامَّةً. وإذا كان إثبات صحة قاعدة أو سلامة تركيب يتوقف على صحة المصدر الذي تقوم عليه تلك القاعدة، وإذا كانت المدارس النحوية تعتمد في تقعيدها القواعد على لغة عرب البادية أو عرب الأرياف لما في لغتهم من فصاحة وبيان، بل إذا كانت المصادر تعتمد أصولاً للقياس والتقعيد النحويِّ لما تتوافر فيها من فصاحة، وسلامة من اللحن والتحريف، فإنَّ مقتضى ذلك أن تكون لغة المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أهمَّ مصدرٍ بعد لغ ة القرآن الكريم وأولاه اعتداداً في التقعيد والتأصيل النحويين، وذلك لأن الفصاحة التي تتوافر فيها لا تتوافر في لغة أيِّ بدويٍّ سواء أكان من آكلة اليرابيع أم كان من آكلة الشواريز.
وبما أن هذه اللغة النبويَّة الشريفة هي الموضوعة فيما يصطلح عليه بالحديث النبوي، فإنَّ المنطق والعقل يحكمان بضرورة الاحتجاج به، والاستشهاد به واتخاذه أصلاً للتقعيد والتأصيل، بل إنَّ المنهج العلميَّ يلزم تقديم الاحتجاج به على الاحتجاج بشعر شاعر جاهليٍّ مغمورٍ، أو بنثر متكلمٍ بدوي مدمن على أكل اليرابيع أو على شرب الشواريز، وذلك لكون لغته ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ أفصح من لغات أولئك البدو حرشة الضباب، ومن لغات أولئك الريفيين باعة الكواميخ. وبناءً على ذلك، فإننا نرى أنَّ إعادة تصنيف مصادر التقعيد النحوي تقتضي أن يكون الحديث النبوي الشريف الصحيح سنداً ومتناً المصدر الثاني بعد لغة القرآن الكريم للتقعيد. ولئن ادَّعى مدَّعٍ كون الحديث النبوي موضوعاً في لغة غير لغة النبي ـ صلى اللـه عليه وسلّم ـ وذلك نتيجة تجويز رواية الحديث بالمعنى عند بعض أهل العلم بالحديث، فإنَّ هذا الادعاء لا يعدو في نظرنا أن يكون ترجيحاً للوهم على الحقيقة، وبيان ذلك هو أن دعوى تجويز الرواية بالنقل لا تقوم على حجة مقنعةٍ، وإن ردَّدها عدد كبير من العلماء قديماً وحديثاً، وذلك لافتقار الدعوى إلى الأسس العلمية المنضبطة، نعني أنّ َ الأصل في الرواية هي الرواية باللفظ، وأما الرواية بالمعنى فليست بأصلٍ، ولذلك، فلم يُجِزْها بعض أهل العلم بالحديث، وأضف إلى ذلك أنَّ الغالب في جل الأحاديث كونها مروية باللفظ لا بالمعنى.
3) المصدر الثالث للتقعيد النحوي: القبائل البدوية والريفية:
وأما المصدر الثالث للتقعيد النحويِّ المُعِين على تجاوز أخلال المدرسة البصرية المنهجية، فهو لهجات قبائل العرب بدوييهم وريفييهم، وذلك انطلاقاً من عدم اشتمال القرآن الكريم على جميع لهجات قبائل العرب، وبطبيعة الحال يمكن تقديم كلام البدو على كلام الريفيين في حالة وقوع تعارضٍ بينهما عند التقعيد، وذلك ترجيحاً لواقع حياة البدو التي كانت أعمق في التبدي، وألصق بالعيشة الفطرية، وأبعد عن تأثير لهجات الأمم الأجنبية في كلامها شعراً ونثراً. وأما إذا لـم يكن ثمَّ تعارضٌ فلتعتمد لهجاتهم ضمن اللهجات الفصيحة لا الفصحى.
سادساً: وسائل تطبيق هذا التصنيف المقترح لإعادة تقعيد القواعد النحويَّة
لئن انتهينا إلى القول بضرورة إعادة تصنيف مصادر التقعيد النحويّ وتصحيح الخلل المنهجي المخَّيم على التصنيف الموروث، فإنَّ دعوتنا تلك تظل نظرةً مثاليَّة ما لـم نُبدِ الوسائل العلمية المنهجيَّة المعينة على إخراج ذلك التصنيف المقترح من عالـم النظر إلى عالـم التطبيق.
1ـ إنَّ اعتماد لغة القرآن الكريم مصدراً وأصلاً للقياس يقتضي القيام باستقراء جميع لهجات القبائل التي تتألف منها لغة القرآن، كما يقتضي اعتماد تلك اللهجات أصلاً لكل تقعيد وتأصيلٍ دونما تأويل أو تخريجٍ، ومقتضى هذا المنطلق ضرورة الوقوف على جميع القراءات ومعرفة عـلاقتها بالقبائل التي تتألف من لهجاتها لغة القرآن الفصحى بحيث يتم إدراج ذلك الأسلوب ضمن الأساليب العربية الفصحى، ويتم إخراجها من عالـم الشذوذ (قلة الاستعمال أو ندرته) إلى عالـم الفصاحة، فليس صحيحاً الإبقاء على لهجة قرآنية في دائرة عالـم الشذوذ، بل ليس مقبولاً اللجوء إلى التأويلات المتكلفة والتخريجات المضيعة للعمر والصحة إذا ما استعمل القرآن لهجة مخالفة لقاعدة نحويَّة وضعها رجالٌ لـم تكن بضاعتهم في معرفة القراءات القرآنية ثقيلة. فإذا نصب القرآن اسم «إنَّ» في حالة التثنية في موضع، وكانت علامة نصبه الألف، ونصب اسمه في موضع آخر، وكانت علامة النصب الياء، لا ينبغي أن تؤوَّل الحالة الأولى أو تخرَّج بتخريجات، للخيال فيها نصيبٌ وافرٌ، كما لا ينبغي أن تؤوَّل الحالة الثانية لتوافق الحالة الأولى، وإنما ينبغي أن يعرف أنَّ القرآن في الحالة الأ ولى استعمل لهجة كنانة، واما في الحالة الثانية، فقد استخدم لهجة قريش، وكلتا اللهجتين داخلتان ضمن فصحى لهجات القبائل، وذلك بسبب اشتمال القرآن عليها. فإذا ما تَكَّلَف مُتَكلَّفْ في تأويل إحدى الحالتين، فإن ذلك لا يعدو أن يكون استغفالاً للمقصد الشرعي الكامن في اشتمال القرآن الكريم على أكثر من لهجة كما لا يعدو أيضاً أن يكون مصادرة للمقصد القرآني في ضبط الإطار العام للغة النموذجية، مما يجعل الأسلوب القرآني حاكماً على شتى اللهجات والقواعد والأصول السابقة عليه... واي استبعاد لهذا البعد الكلي تقليب لما ينبغي أن يكون، ومصادرة للواقع التاريخي الي يؤكد علىوجود القواعد القرآنية قبل ميلاد نحاة البصرة والكوفة أجمعين.
لو تأمل المرء في كل التخريجات النحوية التي أوردها النحاة بصرييهم وبعض كوفييهم حول قوله عز وجل في قصة موسى {قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتك المثلى} طه 63، فلن يفلح بأي تخريج علمي رصين دقيق، بل سيجد نفسه أمام ركام هائل من التأويلات كان بوسعهم ألا يلوذوا بها لو أنهم عنوا قبل تقعيد القواعد باستقراء القراءات الواردة في تلك الآية وعنوا بمعرفة القبائل العربية التي تنصب اسم «إن» بالألف في حالة التثنية مطلقاً أو في حالة كون اسمها اسم اشارة فقط، لكفاهم ذلك من كل أولئك التخريجات والتأويلات المبعدة عن المقاصد العلية. بل لكان يسعهم عند تقعيدهم القواعد النحوية أن يقولوا إن في إعراب اسم «إن» اذا كان مثنى وجهين: إما النصب بالألف، أو النصب بالياء، وكلا الوجهين فصيح. وإذا كان يعز عليهم تعميم القضية، فقط كان يكفيهم القول إن في اعراب اسم «إن» إذا كان مثنى وكان اسم اشارة وجهين: النصب بالألف، أو النصب بالياء، وكلا الوجهين شاف كاف. فهذا المنهج كان أسلم وأريح وأولى من المنهج التأويلي التخريجي المتكلفين أيما تكلف.. وخاصة أن هذه القراءة تنسب إلى احدى اللهجات التي تتألف منها لغة القرآن، وهي لهجة كنانة، وفي ذلك يقول أبو حيان الاندلسي ـ في بحره المحيط متجاوزاً كل تأويل أو تخريج متكلفين:
«... والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من اجراء المثنى بالألف دائماً، وهي لغة لكنانة، حكى ذلك أبو الخطاب، ولبني الحارث بن كعب وخثعم، وزبيد وأهل تلك الناحية ـ حكى ذلك عنهم الكسائي ـ ولبني العنبر وبني الهجيم، ومـراد، وعـذرة ـ وقـال أبـو زيد سـمعت مـن العـرب مـن يقـلب كل يـاء ينفـتح ما قبـلها ألفاً...»(27)
وقس على هذا جميع الاساليب التي استعملها القرآن الكريم من فصحى لهجات القبائل العربية، وذلك من منطلق وضع إطار عام للغة العربية الفصحى، ولكنه ـ مع الأسف الممّض ـ لـم يسلم أي منها من طائلة التأويل والتخريجات الموغلة في التكلف والتنطع، وكان يكفيهم تصحيح قواعدهم المدونة في ضوء الشواهد القرآنية، والحديثية بدلاً من أن يلوذوا بحمى التأويل والتخريج لكل أسلوب مصحح لقواعدهم المصطنعة على عجل.
2ـ ومهما يكن من شيء، فإنه يمكن تجاوز صنيعهم عن طريق التركيز على تصحيح المنطلق الذي قام عليه التقعيد النحوي لدى جميع المدارس النحوية بشكل عام ولدى المدرسة البصرية بشكل خاص، وذلك بأن يغدو الأسلوب القرآني المحكم بجميع قراءاته ـ المتواترة أو الآحاد ـ مؤصلاً ومقعداً للقواعد النحوية، وليس مقرراً أو مؤكداً لها، وشتان ما بين التأسيس والتأكيد، وما بين التأصيل والتقرير، فكل ماورد وصح أنه قرىء به وجب الاحتجاج به في العربية، ووجب تقديمه على غيره من مصادر التقعيد النحوي سواء أكان متواتراً، أو آحاداً، أم شاذاً.. وهذا الأمر ـ كما قررنا من قبل ـ لا يبنغي أن يمارى فيه ما دام القوم يرون الاحتجاج بالأشعار التي لا تعرف أعيان قائليها، بل لا سند صحيحاً يقطع بكونها أشعاراً منسوبة إلى أكلة اليرابيع أو أكلة الشواريز، فالقراءات التي تعرف أعيان أصحابها وعدالتهم سواء كانت متواترة أو آحاداً أولى بالاحتجاج.
ولكي يتحقق ذلك التصحيح المنهجي للمنطلق، فإنه ينبغي عرض القواعد النحوية التي اعتمد في تقعيدها وتأسيسها على القبائل البدوية أو الريفية على لغة القرآن الكريم الفصحى، وذلك بغية مراجعتها فتصحيحها في ضوء اللغة النموذجية الفصحى ـ لغة القرآن ـ فما خالف منها القاعدة القرآنية اعتبرت شاذة، وما وافق القاعدة القرآنية أقرت واعتمدت، وهذه المراجعة القرآنية للقواعد النحوية خاصية من خصائص صفة الهيمنة الثابتة للقرآن الكريم بنص قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما انزل اللـه ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} المائدة 48، فكما أن المراجعة تطبق على سائر الأحكام الاجتهادية العقدية والعملية والخلقية فإنها كذلك ينبغي ان تطبق على القواعد النحوية بوصفها اجتهادية بشرية لا تسمو على الخطا والنقد، إذ إن هنالك علاقة مطردة بين جميع جوانب حياة الانسان، فالجانب اللغوي مرآة للجانب الحكمي، والعكس صحيح، وقد سبق أن أسلفنا القول بأن من مقاصد اشتمال القرآن الكريم على أكثر من لهجة تصحيح النظرة القرشية إلى أصحاب اللهجات الأخرى، وتعديل المعيار القرشي للفصيح من القول وعليه ، فإن عناية القرآن الكريم بتصحيح كثير من المعتقدات، والمنطلقات، والتصرفات التي كانت حائدة عن الصراط القويم هي ذات العناية التي عني بها على مستوى اللهجات ومواقف القبائل من لهجات بعضها ببعض. فإذا ما تـم تصحيح منطلق النحاة في تقعيد القواعد، وتـم تجاوز تصنيفهم لمصادر التقعيد، فإنه يمكن إحداث منهجية قادرة على محو الأخلال المنهجية عند البصريين وبعض الكوفيين، وأتباعهم في العصر الحاضر. ولئن استصعب امرؤ القيام بعمل كهذا، لما يحتاجه من إلمام وافٍ بالقراءات والقبائل التي تستعمل تلك اللهجات، بل لئن استحال امرؤ القيام بهذه العملية الصياغية للقواعد النحوية في ضوء المقاصد الشرعية ـ التي اشبعناها حديثاً من قبل ـ بعد مضي هذه القرون الطويلة على تدوين القواعد من عهد الخليل الفراهيدي.
3ـ إن تحقيق هذا الامر لايستلزم إعادة تقعيد للقواعد، ولا اعادة تدوين لها، وإنما يستلزم القيام بعملية مراجعة ودمجلة، فتصفية لأمهات كتب النحو، بحيث يتم الاستغناء عن القواعد النحوية المخالفة للأسلوب القرآني مخالفة صريحة أو خفية، أما القواعد المخالفة لأسلوبه مخالفة صريحة، فنقصد بها تلك القواعد التي تصادر القراءات المتواترة، وتعتدي على قداستها بتخطئة القراء حيناً، أو بوصف القراءة بالسماجة أو القبح أو الشذوذ حيناً آخر. وأما القواعد المخالفة لأسلوبه مخالفة خفية فتتمثل في القواعد النحوية التي تـم بناؤها قبل استقراء القراءات القرآنية استقراء شبه كامل، فرسموا الدائرة النهائية لتلك القواعد، واعتبروا أي شاهد خارج عن الدائرة لحناً أو خطأً أو غير ذلك. إن تطبيق هذه المراجعة وتحقيقها يقتضي تجاوز كثير من تأويلات وتخريجات النحاة المتكلفة المتنطعة بحيث يتم اعتبار ما ورد في القرآن الكريم من لهجة أوأسلوب قاعدة جديدة تضاف إلى القواعد المرسومة، ويتجنب السعي غير المفيد في المحاولات الهادفة إلى اخضاع الأسلوب القرآني للقاعدة النحوية المصطنعة على عجلة من الأمر. فإدخال الشواهد الجديدة في عالـم قواعد النحو لايزيد النحو إلا توسعاً وتيسيراً، كما أن ذلك لايعدو أن يكون استمراراً لحركة التقعيد التي ماكان ينبغي لها ان تتوقف في أي عصر من العصور، وإنما كان حرياً بها أن تتجدد وتزداد نمواً وتقدماً.
4ـ إن تصحيح المنطلق التقعيدي يمكن ان يتم أيضاً عن طريق الترجيح بين الآراء النحوية المتعددة حول قبول قاعدة أو ردها بحيث يتم ترجيح أي رأي يتخذ من الشاهد القرآني دليلاً أو مرجعاً في النزاع، فإذا كان ثـمَّ خلاف بين النحاة كما هوالحال دائماً بين البصريين والكوفيين حول مسألة من المسائل النحوية، ووجدنا إحدى الطائفتين تستند في دعواهم على شاهد قرآني في اثبات صحة قاعدة أو سلامة تركيب، عندئذ يرجح أصحاب ذلك الرأي ـ بصريين كانوا او كوفيين ـ وذلك لانطلاقهم من المنطلق الأصيل الذي ينبغي الانطلاق منه في التقعيد، ولا ضير في شيء أن لا يشتهر ذلك في زمان نحاة بصرة أو من بعدهم شاهداً على اثبات لغة. ويعني هذا تجاوز كثيرمن دعاوى البصريين في نزاعهم مع الكوفيين الذين تمركزت معارضتهم لهم حول ضرورة الاحتجاج بالقرآن الكريم في جميع قراءاته المتواترة في تقعيد القواعد وتأصيل الأصول. ولعل ما عني بجمعه الإمام النحوي الانباري في كتابه «الانصاف في مسائل الخلاف» لخير معين على تحقيق هذا الأمر وتطبيقه إضافة إلى جل كتابات نحاة المدرسة الكوفية والأندلسية والمصرية والشامية.
وينبغي أيضاً الاستفادة من بعض الكتابات المعاصرة في النحو القرآني الذي لا يزال يعاني ضعفاً في الاستجابة والتقبل، وذلك خوفاً من مخالفة القديم الموروث، وعكوفاً على ما انتهى اليه نحاة البصرة من قرون غابرة، ولعل كتابات ومؤلفات الأستاذ الدكتور «أحمد مكي الانصاري» من أجّل المؤلفات في هذا الشأن، ومن اكثرها جرأة ونقداً للنحاة، وكذلك الحال في بعض مؤلفات الدكتور «محمد عبد الخالق عضيمة» ككتابه القيّم «دراسات لأسلوب القرآن الكريم» وغيرهما كثير. ولئن سجلنا بمداد من التقدير والتبجيل لتلك الكتابات الحديثة الغاية الحميدة النبيلة التي تعهدت بالنهوض بهذه المهمة، فإننا لن ننسى ان ننبه بأن تلك الكتابات حصرت جهودها في الدعوة إلى النحو القرآني، وهو النحو الذي ينطلق من القرآن، ويرى في القرآن مصدراً اساسياً للتقعيد والمرجعية النحوية، بيد أنه لايجد المرء في خضم تلك الدعوة أية دعوة منهم إلى اعتبار الحديث النبوي هو الآخر مصدراً للنحو،وإننا نعتقد أن في ذلك نظراً وخاصة ان الاعذار بل العذر الذي يعتمد عليه في عدم الاحتجاج بالحديث النبوي لا يكفي في مصادرة ذلك الكم الهائل من النصوص الحديثية.
سابعاً: التصنيف المقترح لمصادر التقعيد النحوي وعلاقته بتيسير تعلم اللغة:إذا كنا قد انتهينا إلى الدعوة إلى ضرورة تجاوز الترتيب الموروث لمصادر التقعيد النحوي، وذلك لما ينطوي عليه ذلك التصنيف من قلب وأخلال منهجية ولما كان له من دور في تقعيد تعلم النحو، وتعسير استيعاب فصوله ومباحثه، بل اذا كنا قد أبرزنا ذلك القصور المنهجي الجلي في صنيع كثير من النحاة، وخاصة بصرييهم ومن ساروا على نهجهم، فإنه لابد لنا من تأصيل القول فيما سيفرزه التصنيف المقترح لمصادر التقعيد والقياس من نتائج علمية منهجية مفيدة من ناحية، وما سيقوم به من دور جبار في تيسير تعلم النحو واستيعابه، فهضمه دونما ملل ولا كلل.
1ـ إن من المتفق عليه أن المرونة والسعة سمتان رئيستان تتميز بهما شريعتنا الغرّاء في شتى نواحيها واحكامها وقضاياها، وقد كانتا السبب الأساس في بقاء الشريعة شريعة خالدة تمد الحياة الانسانية بين الحين والآخر السُرَجْ الوهاجة التي تنير لها درب الخلاص في تيهها، وتأخذ بيدها سواء السبيل بين ركام الأهواء والشهوات، فتغدو الحياة المهتدية بهديها حياة سعيدة هادئة، للأمن والأمان والسلام نصيب وفير فيها. إن افتقاد وافتقار شرائع من قبلنا هاتين السمتين ـ المرونة والسعة ـ قد كان أحد الأسباب الرئيسة وراء انقراض تلك الشرائع وعدم خلودها، وذلك لأن الحياة البشرية في تغير وتبدل مستمرين ولم تعرف توقفاً عن هذين الأمرين في أية لحظة من اللحظات.
إن كثيراً من علمائنا الفقهاء والاصوليين والمفكرين قد ادركوا هذه الخاصية للشريعة الاسلامية، وفي ضوئها قعّدوا قاعدة لاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة والاحوال والعادات والتقاليد، بل على اساسه قرروا بأن كل مجتهد مصيب، وأن الطرق الموصلة إلى الحق قد تتعدد، وإن لـم يتعدد الحق ذاته، وعلى درب الايمان بمرونة الشريعة وسعتها كانت المدارس الفقهية المتعددة في تاريخنا الاسلامي، ولا تزال الأيام حبلى بكثير من الاجتهادات الواعية التي تصدر عن فهم دقيق للواقع وللنصوص بغية إرشاد البشرية جمعاء نحو سبيل الرشاد والفلاح.
2 ـ لئن كانت مرونة الشريعة وسعتها بارزة في جانب الاحكام الفقهية أو العقدية أو الخلقية، فإن ذلك لا يعني ان المرونة أو السعة قاصرتان فقط على تلك الجوانب المذكورة كما قد يختلف بعض إلى ذلك، بل المرونة والسعة أجلُّ من أن تنحصرا في دائرة الاحكام فقط، بل لايمكن ان تحدهما حدود، ولا أن تقفا عند محطة دون اخرى، بل تشملان الشريعة في جميع جوانبها، ولعل من أهم الجوانب التي يمكن ملاحظتهما فيها جانب الاسلوب المتمثل في قراءات القرآن الكريم المتعددة، وفي أحاديث المصطفى ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ سواء منها ما كان مروياً باللفظ او بالمعنى، ولكن الأمر الملحوظ أن جمهرة نحاتنا ـ وخاصة البصريين منهم ـ الذين قعّدوا القواعد النحوية تجاوزوا هذا الجانب الأساس في الأسلوب القرآني، فضيقوا ماكان واسعاً وعقّدوا أمراً كان يمكن ان يكون أسهل الأمور وأيسرها على الراغبين في تدبر القرآن وتفهم معانيه. ولعل السبب الرئيس في هذا الأمر يعود في نظرنا إلى قيام الدراسات النحوية ومدارسها على النظرة المجردة الجافة التي لا تهمها سوى وضع القواعد دونما أخذ في الاعتبار المقاصد العلية في اشتمال القرآن الكريم على فصحى لهجات القبائل العربية، ويعود السبب أيضاً إلى التسرع في وضع القواعد بناء على استقراء ناقص، وعلى خلط في تحديد العلاقة بين مصادر التقعيد، ولم يأخذوا في الاعتبار ما ينتج عن التسرع في وضع القوانين من تضييق وتعسير على الممتثلين بها، كما لـم يلتفتوا إلى ماطرأ على الواقع العربي بعد نزول القرآن وبعثة المصطفى ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ من تغيير جذري على سائر مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واللغوية والتربوية. واذا كان المعهود من ان واضعي القوانين البشرية الناجحين في تقانينهم يستفرغون طاقاتهم في استقراء أحوال المقننين لهم، ومآلات القوانين المراد وضعها بغية ضمان نجاح تلك القوانين، فإن كثيراً من نحاتنا ـ غفر اللـه لنا ولهم ـ لـم يسعهم ادراك هذا الجانب في التقنين النحوي، وفي وضع الاحكام القيمية للأسلوب العربي بشكل عام وللاسلوب الشرعي بشكل خاص. إذ انهم لو ادركوا ذلك عند تقعيد القواعد لورثونا قواعد نحوية مرنة سهلة الاستيعاب يسيرة الهضم والفهم، ولما احتاجت صناعاتهم النحوية إلى كثير عناء أو كبير جهد في البحث عن اعرابي بوال على قدميه في الشمال، أو عن اعرابية مغرمة بأكل القديد في الجنوب لاثبات صحة قاعدة أو سلامة تركيب، وإنما كان يكفيهم استقراء الاسلوب القرآني المرن، والاسلوب النبوي الواسع ليخرجوا من كنوزهما القواعد النحوية يسيرة الادراك والاستيعاب.
وبما أنهم قد تجاوزوا ادراك هذا الجانب المرن في الشريعة بشكل عام، وفي الاسلوب القرآني والحديثي بشكل خاص، فإن ذلك لايبرر للأجيال اللاحقة بهم الابقاء على تلك القواعد التي لـم تراع هذا الأمر قواعد سارية المفعول واجبة الالتزام بها، بل حري بهم تجاوز ذلك القصور، واصلاحه من جذوره، إن بتعديل جزئي أو كلي، أو بتطوير خاص أو عام، او بالغاء جزئي أو كلي للقواعد النحوية التي قعدوها واعتبروها قانوناً واجب الالتزام به عند التحدث أو الكتابة على الرغم من شذوذها لمخالفتها لـما أوثق منها وهي اللغة القرآنية النموذجية.
3ـ إن التصنيف المقترح لمصادر التقعيد النحوي سيلعب ـ في حال تطبيقه ـ دوراً مهماً في تيسير تعلم اللغة العربية بحيث تصبح القواعد النحوية قواعد مرنة مواكبة لمرونة الشريعة الغراء في سائر جوانبها، كما تغدو قواعد واسعة بسعة الشريعة بحيث تصبح التخطئة والتلحين في اللغـة شــأناً ذا دائـرة ضيقة، فلئن كان جمهور النحاة ـ على سبيل المثال ـ قد قرروا من قبل عدم جواز العطف بالرفع على موضع «إن» قبل تمام الخبر، واعتبروا مخالفة ذلك لحناً، فإن الأسلوب القرآني جاوز هذه القاعدة في قوله تعالى {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن باللـه واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون} المائدة 137، ويعني هذا أن قاعدتهم المبنية في غياب استقراء تام للاسلوب القرآني المرن لابد من مصادرتها وتبديلها بقاعدة نحوية أخرى سديدة ترى جواز العطف بالرفع على موضع «إن» قبل تمام الخبر أو بعد تمامه، وفي ذلك تيسير على متعلم النحو ومتفهمه. بل لئن اختلف فطاحلة النحاة إلى عدم جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف، وذلك لقاعدتهم التي ترى أن المضاف والمضاف إليه في حكم الشيء الواحد أو الكلمة الواحدة، وإ ما الاسلوب القرآني المرن فقد صادر هذه القاعدة النحوية الضيقة في قوله عز من قائل {وكذلك زيّن لكثيرمن المشركين قتل أولادهم شركائهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء اللـه ما فعلوه} الانعام 137. ولئن أقطع جمهور النحاة بعدم جواز اضافة «إذا الشرطية» إلى الجملة الاسمية، وإنما تضاف إلى الجملة الفعلية في كل الأحوال، فإن الاسلوب القرآني المرن تحدى هذه القاعدة بإضافته «إذا الشرطية» إلى الجملة الاسمية في كثير من الآيات كما في قوله {إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذاالجبال سيرت، وإذا العشار عطلت....}وفي قوله {إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت...}. واذا كانت جهابذة النحاة قد قضوا بأنه لايجوز إضافة «مائة» إلى الجمع مطلقاً فإن الاسلوب القرآني قد صادر هذا الاجماع في قوله {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين} الكهف 25، وذلك في قراءة الكسائي المتواترة دون تنوين تاء لفظ «المائة».
ثمـة قواعد نحوية تفوق العد والحصر قد أسهمت في تعقيد تعلم النحو، وتعسيره على الفهم لأنها تقوم على التضييق والالزام في غير ما ملزم، ولو تـم مراجعتها كلها في ضوء التصنيف المقترح لأحدث ذلك تغييراً جذرياً في تعلم النحو. وبطبيعة الحال ليس بغائب عنا ما سيقوله اتباع نحاة البصرة أو الكوفة ممن اشربوا بابتلاع تأويلاتهم وتحريجاتهم المتكلفة، إنهم سيقولون بأن الاسلوب القرآني لايتعارض مع القواعد النحوية، ويكفي المرء أن يلجأ إلى التأويل أو التخريج، فيجد توافقاً وانسجاماً والتئاماً بين القواعد النحوية. إننا نقول لهؤلاء بأن حكم الجواز والوجوب والحرمة والكراهة لايملك نحوي أي نحوي ـ كائناً من كان ـ ولو أن اللغة كانت من اختراع النحاة، ومن صنعهم هم لحق لهم أن يحكموا على أي اسلوب مخالف لقواعدهم بالقبح والرداءة وبالشذوذ.. بل لو أنه أوحي إليهم عدم جواز اضافة «إذا الشرطية» أو عدم جواز الفصل بين المضاف والمضاف اليه بغير ظرف، أو نصب اسم «ان» بالألف في حالة التثنية، أو غير ذلك من الأحكام التي أصدروها وقعدوها إن وجوباً أو جوازاً، أو منعاً أو كراهية.. لو كان تـم وحي في ذلك الشأن لما جاز لأحد الخروج على قواعدهم .. وأما واللغة ليست من اختراعهم ولا من صنعهم، وليس هنالك وحي منزّل في قواعدهم، فإن المرجعية في الحكم ينبغي أن تكون لكتاب اللـه ولسنّة رسوله ـ عليه السلام ـ وليس من حاجة في شيء أن نفني أعمارنا القصيرة في افتعال التأويلات والتخريجات للأسلوب القرآني المرن، وللغة المصطفى الواسعة. ولهذا، فعلى إثركم يا قوم!
ومهما يكن من شيء، فإن تيسير تعلم النحو في نظرنا يتوقف على احياء هذا الجانب المرن في الأسلوب القرآني المتمثل في قراءاته المتواترة والآحاد، وفي ادخال الحديث النبوي المروي باللفظ، أو بالمعنى مادام صحيحاً في سنده ومتنه في دائرة الاحتجاج والاستشهاد، وليتـم استبدال القواعد النحوية القائمة بالقواعد النحوية المنبثقة من التصنيف المقترح لمصادر التقعيد النحوي، بحيث يمحى في الدرس النحوي تلك الأحكام النحوية التي جادت بها قرائح نحاة بصرة، او كوفة أو بغداد قبل أن يستقرؤوا ـ استقراء تاماً ـ الأسلوب القرآني ولغة رسول الاسلام ـ عليه أفضل الصلاة وأتـم التسليم ـ بل ولهجات قبائل البدو، فليس في مجاوزة قواعدهم الضيقة الاطار، المعقدة التركيب، المملة الترتيب أي محظور شرعي يعاقب عليه فاعله يوم القيامة مادام القرآن الكريم وسنّة النبي العظيم قبلته ووجهته التي يوليها عند التحدث أو الكتابة.
4) إن التصنيف المقترح ـ إضافة إلى ما سيلعبه من دور في تيسير تعلم اللغة، فسيعنى ـ أيضاً ـ بربط متعلم القواعد النحوية بمعايشة كتاب اللـه وسنّة رسوله ـ صلى اللـه عليه وسلم ـ في كل حين، بحيث تغدو الامثلة والنماذج كلها مشتقة منهما، مما يعني في واقع الأمر الدعوة إلى اتخاذ مصدري الشريعة ـ الكتاب والسنة ـ مرجعية للأحكام سواء منها الاحكام الاجتهادية الفقهية أو القواعد النحوية. وإذا كان من المقرر أن مصدري الشريعة ـ الكتاب والسُنّة ـ قد سلكا في عرضهما للأحكام الفقهية والعقدية والخلقية مسلك التيسير والتسهيل، فلا ينبغي أن يتوقفا على تلك الجوانب المذكورة، وانما ينبغي أن يتجاوزا سائر الحدود البشرية، ولذلك، فحري بتصنيف ـ كهذا ـ أن يجعل القواعد النحوية مزاحمة للقواعد الفقهية والأصولية والتفسيرية في هذا المسلك. إننا نعتقد أنه يوم أن تتاح لهذا التصنيف الفرصة لأن يصبح واقعاًً ملموساً معاشاً، فسوف يتـم ـ عندئذ ـ الاستغناء عن تلك الأمثلة التجريدية النظرية التي ما فتىء النحاة يتمثلون بها عند تقريب فهم قاعدة إلى الأذهان.
ثامناً: اقتراحات الدراسة
أولاً: اعتماد تصنيف مصادر التقعيد النحوي الذي أوسعناه جانب التفصيل والتوضيح في هذه الدراسة، بأن يصبح القرآن الكريم بجميع قراءاته المتواترة أو الآحاد مصدراً أولياً وأساساً للتقعيد النحوي، ولا حاجة البتة إلى اللجوء إلى التأويل أو التخريج لموافقة القواعد النحوية التي بناها النحاة قبل استقراء النص القرآني على مستوى جميع قراءاته. فكل ما ورد في القرآن أصل وقاعدة يصح الاحتجاج والاستشهاد به، وذلك لايماننا جميعاً بكون لغة القرآن فصحى، وما عداها من لغات قبائل العرب فلا تخلو إما أن تكون فصيحة أو تكون دون ذلك.
واذا اعتمد كل أسلوب قرآني بأية قراءة صحيحة كانت ـ متواترة أو شاذة ـ أصلاً وقاعدة نحوية، فليكن الحديث النبوي الصحيح المصدر الثاني بعد القرآن الكريم سواء كان الحديث مرويا باللفظ أو بالمعنى، فالمروي منه باللفظ تعتبر لغته أفصح من أية لغة أخرى، وأما المروي منه بالمعنى فيصدق عليه ما يصدق على لغات قبائل البدو والأرياف من سليقة وفصاحة وبيان. وكل ما ينبغي مراعاته في ذلك هو جانب الصحة في الحديث لاغير. وإذا ما استوعب الحديث النبوي جاز الاحتجاج بلغات قبائل البدو وأهم ما نؤكد عليه في هذا المجال هو ضرورة مراعاة الترتيب السلمي بحيث لايقدم مصدر ادنى ع