يرسم الأديب و الفقيه فريد الأنصاري في روايته الجديدة "آخر الفرسان"سيرة أدبية ل "مكابدات بديع الزمان النورسي "مستفيدا من الوقائع التاريخية لدولة الخلافة العثمانية عبر صراعها المرير بين العلمانية و الإسلام أو بتعبير الرواية بين "أشباح الظلام أو خفافيش الظلام "و تلاميذ "رسائل النور" . ومن خلال فصول الرواية السبعة يحلق الأديب المغربي بالقارئ فوق سماء المدن التركية برمزية عمرانها و مؤسساتها العلمية و السياسية مقدما الأحداث و الوقائع و المواقف التي طبعت حياة بديع الزمان النورسي مؤسس جماعة النور التركية و آخر فرسان دولة الخلافة. . توصيف شكلي
جاء عنوان الرواية "أخر الفرسان"معرفا بالإضافة و منكرا من حيث الدلالة إذ لا يمكن للقارئ منذ الوهلة الأولى معرفة من هو آخر الفرسان خاصة مع وجود تمويه في غلاف الرواية برسم فرس أبيض جامح يركض مثيرا النقع وراءه.
وقد اشتمل لون الغلاف مزيجا من اللونين الأبيض و الأسود و فيا لثنائية الظلام و نور الشمس المنبعث من بعيد.ولا يستبين القارئ دلالة العنوان إلا بفتح الغلاف حيث أضيفت عبارة ."مكابدات بديع الزمان النورسي"أو بعد قراءة الرواية حتى نهايتها ليتفهم أن الحديث في الرواية يدور حول نضال النورسي في تثبيت الإسلام بدولة الخلافة العثمانية.
وقد صدر المؤلف روايته الثانية بعد روايته الأولى "كشف المحجوب"بإهداء إلى الأستاذ محمد فتح الله كولن وارث سر بديع الزمان النورسي تلاه تنويه و شكر يمثل علامات مضيئة لقراءة الرواية إذ أشار المؤلف إلى أن معلومات الرواية مستقاة من كتاب "الرجل و الإعصار"لإحسان قاسم الصالحي و "سيرة النورسي"المضمنة في المجلد التاسع لكتاب "كليات رسائل النور"و كتاب "رجل القدر"لأور خان محمد علي.
إلا أن المؤلف و بعد إشارته لمصدر معلوماته في نسج خيوط الرواية و أحداثها يؤكد أنه اختار "آن أبني فصول هذه الرواية بهندسة تجمع بين التصميم الواقعي في ترتيب الأحداث و المعيار السوريالي المجنح بالخيال في عرضها لأن ذلك في نظري هو التعبير الأدبي الأنسب لتقديم صورة عن حياة رجل كالنورسي الذي عاش حياة درامية أشبه ما تكون بالخيال (ص .7).
وبالإضافة إلى ما ذكره الدكتور فريد الأنصاري بالتصريح في شأن مصدر معلوماته في بناء هذا الإبداع الأدبي يستشف القارئ أن المؤلف استفاد أيضا من زياراته المتكررة لتركيا في رسم المكان و دقائقه و استأنس بشهادات رفاق النورسي و تلامذته في رسم شخصيته و رصد سلوكياته و كذا استعان بالمصادر التاريخية التي اعتنت بالتحولات التي ميزت تاريخ تركيا "دولة الخلافة "و صراعها المرير بين النموذج العلماني و الإسلامي . و قد توزعت الرواية إلى سبعة فصول في 244 صفحة من الحجم المتوسط و خصص لكل فصل عنوان أصلي تحته عناوين فرعية و جاءت العناوين رمزية تحتاج إلى ذكاء القارئ لفك دلالتها مثل الفصل الأول :الأشباح تهاجم المدينة (جهود علمنة تركيا ) (2): مكابدات سعيد القديم (قبل النبوغ و الفتح القرآني ) (3): اسطنبول بين الأولياء و الأتقياء (شخصيات أثرت في تاريخ تركيا :عبد الحميد الثاني.كراصو ...) (4): تجليات الموت (عرض للمعانات و المكابدات ) (5): مكابدات سعيد الجديد (التدافع العلماني و الإسلامي بعد تفتق الموهبة الإيمانية ) (6): منفى "بارلا" مولد النور و الجمال (انتشار رسائل النور رغم التضييق )و السابع و الأخير : تجليات الحزن الجميل (يرصد اللحظات الأخيرة من حياة النورسي).
مفاهيم صوفية
منذ البدء يحاول الروائي فريد الأنصاري الثورة على المألوف لدى الناس و ذلك بإشعار القارئ أنه لا يقر بموت سعيد النورسي المادي لأن بقاء رسائل النور التي ألفها و غيرت مسار الأحداث بتركيا هو ما يمثل حياته الحقيقية مستمسكا بتعبيرات صوفية و اقتباسات قرآنية : "...كان قلبي يحدثني أنه مازال هناك...رغم أنه قيل لي لقد مات منذ سنة 1960م كيف يكون قد مات يا سادتي و أنا أكاد أجد ريحه لولا أن تفندون ...نعم كل الكتب تتفق على تاريخ وفاته المذكور و أصدقكم القول ما صدقت منها أحدا...لذلك قررت أن أراه .و عزمت على الرحيل فحملت حقيبتي الصغيرة و توجهت تلقاء سيدة المدائن خاتمة عواصم الإسلام إسطنبول.(ص 19).
و أثناء سير المحطات العصيبة التي طبعت حياة سعيد النورسي يتعرف القارئ على رجل بذل حياته لها نضالا وتضحية لتثبيت جماعة النور بتركيا كامتداد للمجد الإسلامي في عاصمة الخلافة الإسلامية : "عاش و لا بيت له.و شاخ ولا زوج له.ثم مات ولا قبر له.فأي شخص هذا إذن ؟(ص: 14).
وفي عرض مواقف الشخصية الأساسية للرواية "الخيالية " يطلع القارئ على المعالم الحضارية للمدن التركية وكيف ساعد المكان على انتشار رسائل النور أو التضييق من حركتها حسب طبيعة ساكني هذه المدن في مقابلة رمزية لافتة بين أشباح الظلام في أنقرة خلال القرن العشرين وتلاميذ النور في "بارلا " وإسطنبول .وفي رسم تلك المشاهد والصور تتجلى بوضوح لغة أدبية رائقة تمتح مفاهيمها اللغوية من الحقل الصوفي : مواجيد.مقامات.أحوال.تجليات.رؤيا.واردات.أحوال.فتح الأسرار.تلاوة الأوراد...دون أن يجرف المؤلف استعمال هذه المفاهيم الصوفية إلى الإقرار بالمخالفات الصوفية التي سبق أن نبه إليها في كتابه الصادر ضمن سلسلة كتاب الأمة بقطر : "التوحيد و الوساطة في التربية الدعوية" في جزءين.وهو الأمر الذي سيحرص الدكتور فريد الأنصاري على التنبيه إليه في موضعين : الأول أثناء لقائه الرمزي مع سعيد النورسي و طلبه مصاحبته إذ أرشده النورسي بالقول :.."إنما شرطي عليك يا بني أنني صاحب طريق فقط حتى إذا كنت بحاضرة الأنوار فشأنك وصاحبك الذي تريد..وإنما تجلياتك على قدر صدقك.فذلك امتحانك العسير يا ولدي..فتأهب للرحيل.(ص :20).
أما الموضع الثاني فقد جاء أثناء الحديث عن الحيرة التي انتابت النورسي بعد اطلاعه على "فتوح الغيب"للشيخ عبد القادر الجيلاني و"مكتوبات"للإمام أحمد الفاروقي السرهندي حيث تأكد للنورسي أن القرآن هو بداية الطرق وأصل هذه الجداول وشمس هذه الكواكب السيارة :"... فتوحيد القبلة الحقيقي إذن لا يكون إلا بالقرآن أو ليس القرآن هو أسمى مرشد وأقدس أستاذ على الإطلاق"؟(ص:130). وعن طريق القرآن تحول سعيد القديم إلى سعيد الجديد وألف رسائل النور...
واقتباسات قرأنية
وإلى جانب الاغتراف من المفاهيم الصوفية والعرفانية كانت الاقتباسات القرآنية مساعدة في تبليغ كثير من المعاني في توليف سلس بين النص الشرعي واللفتة الخيالية للأديب الروائي كما جاء في مواضع متعددة من الرواية:"لقد أرادوا بي أمرا ولكن الله أراد أمرا ألا (لله الأمر من قبل ومن بعد)"(ص:135).. وشاهدنا مرة أخرى سرا من أسرار الآية الكريمة:"وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم"(ص:188) ".. ولا يغرنك تقلب خفافيش الظلام(دعاة العلمانية) في البلاد"(ص:204) ".. وكانت السيارة ترحل في عالم آخر متدثر بتراب النبوة ذرا على أعين المشركين ليلة الهجرة فصار الغبار الرقيق من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون"(ص:231).
وبالإضافة إلى هذين الطابعين المميزين (المفاهيم الصوفية والاقتباسات القرآنية) في بناء الرواية هناك مجموعات من الخواطر الخاصة أوردها المؤلف بذكاء على لسان بطله "النورسي"حول السياسة والدعوة:" كان الاستقبال أروع ما يكون وكانت بهرجته كافية للإيقاع بأي عاشق لبريق الألوان...كل المسؤولين حاضرون كل النواب في البرلمان كل الأعيان وجموع الأهالي تملأ المكان ما هذا؟ وماذا يراد بي؟ودخلت البرلمان.. كان واضحا أنه مجرد لعبة لإلهاء الأمة فما هو إلا مسرح للجدل بلا عمل واد لتفريغ الطاقة وإشغال العباد بنفخ الرماد والسم يجري بجسم الأمة وا أسفاه فأين المبصرون "(ص:136) ويزيد في تأكيد نفوره من سياسة البهرجة غير المؤسسة على علم بتخصيص عنوان ضمن وصايا النورسي في الفصل الأخير بأن " سياسة تسوس السياسة ولا تشتغل بالسياسة" (ص:221).
ملاحظات حول الرواية: من خلال الرواية يظهر أن المؤلف اجتهد في تقديم صورة أدبية قريبة لشخصية مؤسس جماعة النور التركية "بديع الزمان النورسي " وتثبيت رمزية المدن التركية حتى يخيل لقارئها أنه يعيش مرافقا لسعيد النورسي في حياته الخاصة والعامة إلا أن ذلك لا يمنع من إيراد بعض الملاحظات :
حاول المؤلف "فريد الأنصاري" احترام القارئ بتقديم مصدر معلوماته حول بديع الزمان النورسي منذ البداية في تصدير الرواية وهو الشيء الذي يوحي بأن العمل قد يكون مجرد رواية تسجيلية لأحداث وقعت وكان الأولى تأخير هذه الإفادة إلى النهاية للحفاظ على تشويق القارئ لمتابعة منعرجات أحداث الرواية. حرص الروائي على المزج بين ضمير المتكلم وضمير الغائب في تقريب شخصية النورسي وتاريخ تركيا إلا أن هذا المزج أوقع التباسا في بعض الأحيان عندما يتحدث المؤلف والنورسي بضمير المتكلم في نفس المقطع الروائي :" جنون القراءة" مثلا ص:40 و 41 من الفصل الأول.
بالقدر الذي يسرت عنونة الفصول وموادها المدرجة تحتها استراحة نفسية لقارئ الرواية إلا أن كثرة العناوين أثرت شيئا ما على انسابية القراءة رغم أن القارئ يظل مستمسكا بأحداثها بخيط عضوي حافظ عليه المؤلف باحترام الترتيب الواقعي للأحداث بدءا من ميلاد سعيد النورسي و انتهاء باختفاء قبره وتسلم أخيه الزبير وصديقه "بيرم يوكسل" لمشعل مسيرة النور بعد غياب مؤسسها الأول.
وفي الختام يجدر التأكيد أن الروائي المغربي "فريد الأنصاري" تفنن في تقديم بطله الأسطوري روائيا – الواقعي فعلا بخصاله الرفيعة وبذلك يكون الفقيه والشاعر فريد الأنصاري قد قدم بالإضافة إلى تجربته السابقة في رواية "كشف المحجوب" إمكانية أن يكون الفقيه أدبيا وشاعرا وعالما وروائيا في الآن نفسه.