مقدمة :
التعليل : يرى الإمام الشاطبي أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد ، وأن هذا التعليل مستمر في جميع مقاصد الشريعة. والنصوص المتضمنة لتعليل الشريعة تعليلاً عاماً أو تعليلاً جزئياً لبعض أحكامها قوله تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } وقوله سبحانه بعد آية الوضوء { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون }.
وقد أكد الشاطبي أن الشريعة معللة جملة وتفصيلاً برعاية مصالح العباد ، وهي مسألة قطعية مسلمة… ويقسّم الشاطبي أحكام الشريعة إلى معاملات وعبادات ، وأن أحكام العبادات تُبنى على التسليم والتعبد بغضّ النظر عن العلل والحِكَم ، لكنها في باطن الأمر هي معللة - وإن كان التعليل طارئاً بشكل استثنائي في العبادات - وذلك عند النصِّ عليه من قبل الشارع ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام… لعلكم تتقون } وقال تعالى : { وأقم الصلاة لذكري } ، وقال تعالى : { وأذّن في الناس بالحج… ليشهدوا منافع لهم } ، وقال تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها }… ومما يؤكد هذا المعنى أن الرخص في العبادات معللة كلها ، كالمشقة في السفر ، والنهي عن المبالغة في العبادات إلى حد الإرهاق.
والقول بالتعليل ليس نافياً لمعنى التعبد… بل إن التعليل فيه تعبد… إلا أن للتعليل مسالك وقوانين لا بد من مراعاتها ( انظر علم الأصول ) فليس لأحد أن يعلل على ذوقه وتخمينه… وليس له أن يحكِّم في شرع الله ظنونه وتوهماته.
المقاصد : وقد قسمها الشاطبي إلى قسمين : قصد الشارع وقصد المكلف
أولاً - قصد الشارع
1- قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً: هو أن الشريعة وضعت لمصالح العباد في الدارين ، وهو القصد الأول… وقد اتفق العلماء على تقسيمها إلى :
• ضرورية وهي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا ، بحيث إذا فقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة ، بل على فساد وتهارج وفوت حياة ، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين.
• حاجية وهي المفتَقَرُ إليها للتوسعة ورفع الضيق والحرج دون أن يبلغ فقدانها الفساد العام والضرر الفادح.
• تحسينية وهي الأخذ بما يليق من محاسن العبادات وتجنب المدنسات ، يجمع ذلك مكارم الأخلاق.
وقد قسمت المصالح الضرورية إلى خمسة أصول هي : حفظ الدين - حفظ النفس - حفظ النسل - حفظ المال - وحفظ العقل.
والمقصود حفظها من جانب الوجود في كل ما يحقق تثبيتها ووجودها ، وحفظها أيضاً من جانب العدم ، أي إبعادها عن كل ما يؤدي إلى زوالها وفسادها.
« ويندرج تحت هذا ما يمكن تسميته بتوسع آفاق المقاصد ، وطرح مواضيع معاصرة ، مثل : الحرية وحقوق الإنسان ومفهوم الفطرة بما يبعث روح الحياة والحركة بتجاوز الحفظ الساكن ، والامتداد نحو معاني الحركة والنماء والتزكية ، وحفظ الكرامة والعزة وصيانة الأسرة وحقوق التعليم والاطلاع واكتشاف سنن الحياة ، وحقوق العمل والتنمية وتأمين البنية التحتية للعمل وصيانة المال العام والخاص وإيجاد الوظائف… وباختصار : ردم الهوة بين هدي القرآن والسنة وبين واقع الناس المعاش »[رياض أدهمي ، مجلة «الرشاد»، المركز الأمريكي لدراسة الحضارة والثقافة]
2- قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام
وهذه المسألة يمكن النظر إليها باعتبارها أداة لفهم المقاصد أكثر منها مقصداً بذاتها. ويمكن تلخيصها بمسألتين :
i- هذه الشريعة المباركة نزلت بلسان عربي.
ii- هذه الشريعة المباركة أمية… أي بسيطة… لايحتاج فهمها إلى مقدمات فلسفية سابقة ، وهي لهذا لا تتوقف عند بيئة معينة وزمن معين.
وفي هذا السياق لا بد من طرح مسألة مهمة وهي عربية الشريعة وعالمية الرسالة ، حيث أن لهذا الموضوع حساسية ، خصوصاً البحث عن الاجتهاد والتجديد في مجمل شؤون الأمة… فإذا كان من المألوف التاريخي أن يتصدى للاجتهاد علماء الشريعة المجتهدون ، فما هو دور غير العرب من المسلمين وهم من أولي الذكر بعلم الاجتماع والسياسة والنفس والاقتصاد ، والذين يفترض فيهم المشاركة والمساهمة في عملية الاجتهاد والتجديد ، إذا كانت اللغة العربية تُعتبر من أدوات الاجتهاد حكماً ؟ وجواب ذلك أن عربية الثقافة الإسلامية لا شك فيها. فمن أراد أن يتفاعل مع مقاصد الشرع فقد وجب عليه تعلم اللغة العربية وإتقانها حتى يعلم مقاصد الشرع التي اختارها الله تعالى… لكن الاجتهاد ليس نوعاً واحداً… فهناك المجتهد لاستنباط الأحكام والقيم والموازين من القرآن والسنة ، وهذا لا بد له من إتقان أدوات الاجتهاد كلها ، ومنها اللغة العربية. وأما الاجتهاد لتحقيق المناط ، أو لتنزيل الحكم الشرعي على واقع ، أو وضع معين ، فلا يحتاج إلا إلى معرفة الحكم الشرعي أو القيمة التي اعتبرها الشرع ، كما قررها علماء الشريعة. فهذا بالضبط دور عالم الاجتماع ، فهو المجتهد لتحقيق المناط نظراً لمعرفته بالواقع وأبعاده والقوى المؤثرة فيه ، وهو وحده المؤهل لتنزيل الحكم بتفصيل لا يعلمه سواه… وهناك بالتالي فرق بين استنباط الأحكام وبين تحقيق المناط في الأحكام ( أي تنزيل الأحكام على الواقع ) وبهذا نوازن بين عربية الشريعة وعالميتها في موضوع الاجتهاد. [ رياض أدهمي ، مجلة « الرشاد » ، المركز الأمريكي لدراسة الحضارة والثقافة]