ثم تجيء قصة إبراهيم. تجيء في حلقتين رئيسيتين : حلقة دعوته لقومه ، وتحطيم الأصنام ، وهمهم به ليقتلوه ، وحماية اللّه له وخذلان شانئيه - وهي حلقة تكررت من قبل في سور القرآن - وحلقة جديدة لا تعرض في غير هذه السورة. وهي الخاصة بحادث الرؤيا والذبح والفداء ، مفصلة المراحل والخطوات والمواقف ، في أسلوبها الأخاذ وأدائها الرهيب! ممثلة أعلى صور الطاعة والتضحية والفداء والتسليم في عالم العقيدة في تاريخ البشرية الطويل.
«وإن من شيعته لإبراهيم. إذ جاء ربه بقلب سليم. إذ قال لأبيه وقومه : ماذا تعبدون؟ أإفكا آلهة دون اللّه تريدون؟ فما ظنكم برب العالمين؟» ..
هذا هو افتتاح القصة ، والمشهد الأول فيها .. نقلة من نوح إلى إبراهيم. وبينهما صلة من العقيدة والدعوة والطريق. فهو من شيعة نوح على تباعد الزمان بين الرسولين والرسالتين ولكنه المنهج الإلهي الواحد ، الذي يلتقيان عنده ويرتبطان به ويشتركان فيه.
ويبرز من صفة إبراهيم سلامة القلب وصحة العقيدة وخلوص الضمير :
«إذ جاء ربه بقلب سليم» ..
وهي صورة الاستسلام الخالص. تتمثل في مجيئه لربه. وصورة النقاء والطهارة والبراءة والاستقامة تتمثل في سلامة قلبه. والتعبير بالسلامة تعبير موح مصور لمدلوله ، وهو في الوقت ذاته بسيط قريب المعنى واضح المفهوم. ومع أنه يتضمن صفات كثيرة من البراءة والنقاوة ، والإخلاص والاستقامة .. إلا أنه يبدو بسيطا غير معقد ، ويؤدي معناه بأوسع مما تؤديه هذه الصفات كلها مجتمعات! وتلك إحدى بدائع التعبير القرآني الفريد.
وبهذا القلب السليم ، استنكر ما عليه قومه واستبشعه. استنكار الحس السليم لكل ما تنبو عنه الفطرة الصادقة من تصور ومن سلوك :
«إذ قال لأبيه وقومه : ماذا تعبدون؟ أإفكا آلهة دون اللّه تريدون؟ فما ظنكم برب العالمين؟ .. وهو يراهم يعبدون أصناما وأوثانا. فيهتف بهم هتاف الفطرة السليمة في استنكار شديد. «ماذا تعبدون؟» ماذا؟ فإن ما تعبدون ليس من شأنه أن يعبد ، ولا أن يكون له عابدون! وما يعبده الإنسان في شبهة من حق. إنما هو الإفك المحض. والافتراء الذي لا شبهة فيه. فهل أنتم تقصدون إلى الإفك قصدا وإلى الافتراء عمدا : «أإفكا آلهة دون اللّه تريدون؟» وما هو تصوركم للّه؟ وهل يهبط وينحرف إلى هذا المستوي الذي تنكره الفطرة لأول وهلة : «فما ظنكم برب العالمين؟» .. وهي كلمة يبدو فيها استنكار الفطرة السليمة البريئة ، وهي تطلع على الأمر البين الذي يصدم الحس والعقل والضمير.
ويسقط السياق هنا ردهم عليه ، وحوارهم معه ويمضي مباشرة في المشهد التالي إلى عزيمته التي قررها في نفسه تجاه هذا الإفك المكشوف :
«فنظر نظرة في النجوم. فقال : إني سقيم. فتولوا عنه مدبرين. فراغ إلى آلهتهم فقال : ألا تأكلون؟
مالكم لا تنطقون؟ فراغ عليهم ضربا باليمين» ..
ويروى أنه كان للقوم عيد - ربما كان هو عيد النيروز - يخرجون فيه إلى الحدائق والخلوات ، بعد أن يضعوا الثمار بين يدي آلهتهم لتباركها. ثم يعودون بعد الفسحة والمرح فيأخذون طعامهم المبارك! وأن إبراهيم - عليه السّلام - بعد أن يئس من استجابتهم له وأيقن بانحراف فطرتهم الانحراف الذي لا صلاح له ، اعتزم أمرا. وانتظر هذا اليوم الذي يبعدون فيه عن المعابد والأصنام لينفذ ما اعتزم. وكان الضيق بما هم فيه من انحراف قد بلغ منه أقصاه وأتعب قلبه وقواه ، فلما دعي إلى مغادرة المعبد ، قلب نظره إلى السماء ، وقال : «إني سقيم» .. لا طاقة لي بالخروج إلى المتنزهات والخلوات. فإنما يخرج إليها طلاب اللذة والمتاع ، أخلياء القلوب من الهم والضيق - وقلب إبراهيم لم يكن في راحة ونفسه لم تكن في استرواح.
قال ذلك معبرا عن ضيقه وتعبه. وأفصح عنه ليتركوه وشأنه. ولم يكن هذا كذبا منه. إنما كان له أصل في واقع حياته في ذلك اليوم. وإن الضيق ليمرض ويسقم ذويه! وكان القوم معجلين ليذهبوا مع عاداتهم وتقاليدهم ومراسم حياتهم في ذلك العيد فلم يتلبثوا ليفحصوا عن أمره ، بل تولوا عنه مدبرين ، مشغولين بما هم فيه. وكانت هذه هي الفرصة التي يريد.
لقد أسرع إلى آلهتهم المدعاة. وأمامها أطايب الطعام وبواكير الثمار. فقال في تهكم : «ألا تأكلون؟» ..
ولم تجبه الأصنام بطبيعة الحال. فاستطرد في تهكمه وعليه طابع الغيظ والسخرية : «ما لكم لا تنطقون؟» ..
وهي حالة نفسية معهودة. أن يوجه الإنسان كلامه إلى ما يعلم حقيقته ، ويستيقن أنه لا يسمع ولا ينطق! إنما هو الضيق بما وراء الآلهة المزعومة من القوم وتصورهم السخيف! .. ولم تجبه الآلهة مرة أخرى!! وهنا أفرغ شحنة الغيظ المكتوم حركة لا قولا : «فراغ عليهم ضربا باليمين» .. وشفى نفسه من السقم والهم والضيق ...!
وينتهي هذا المشهد فيليه مشهد جديد. وقد عاد القوم فاطلعوا على جذاذ الآلهة! ويختصر السياق ما يفصله في سورة أخرى من سؤالهم عمن صنع بآلهتهم هذا الصنع ، واستدلالهم في النهاية على الفاعل الجريء. يختصر هذا ليقفهم وجها لوجه أمام إبراهيم! «فأقبلوا إليه يزفون» ..
لقد تسامعوا بالخبر ، وعرفوا من الفاعل ، فأقبلوا إليه يسرعون الخطى ويحدثون حوله زفيفا .. وهم جمع كثير غاضب هائج ، وهو فرد واحد. ولكنه فرد مؤمن. فرد يعرف طريقه. فرد واضح التصور لإلهه. عقيدته معروفة له محدودة. يدركها في نفسه ، ويراها في الكون من حوله. فهو أقوى من هذه الكثرة الهائجة المائجة ، المدخولة العقيدة ، المضطربة التصور. ومن ثم يجبههم بالحق الفطري البسيط لا يبالي كثرتهم وهياجهم وزفيفهم! «قال : أتعبدون ما تنحتون؟ واللّه خلقكم وما تعملون؟» ..
إنه منطق الفطرة يصرخ في وجههم : «أتعبدون ما تنحتون؟» .. والمعبود الحق ينبغي أن يكون هو الصانع لا المصنوع : «واللّه خلقكم وما تعملون» .. فهو الصانع الوحيد الذي يستحق أن يكون المعبود.
ومع وضوح هذا المنطق وبساطته ، إلا أن القوم في غفلتهم وفي اندفاعهم لم يستمعوا له - ومتى استمع الباطل إلى صوت الحق البسيط؟ - واندفع أصحاب الأمر والنهي فيهم يزاولون طغيانهم في صورته الغليظة :
«قالوا : ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم» ..
إنه منطق الحديد والنار الذي لا يعرف الطغاة منطقا سواه عند ما تعوزهم الحجة وينقصهم الدليل.
وحينما تحرجهم كلمة الحق الخالصة ذات السلطان المبين.
ويختصر السياق هنا ما حدث بعد قولتهم تلك ، ليعرض العاقبة التي تحقق وعد اللّه لعباده المخلصين ووعيده لأعدائهم المكذبين :
«فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين» ..
وأين يذهب كيد العباد إذا كان اللّه يريد؟ وماذا يملك أولئك الضعاف المهازيل - من الطغاة والمتجبرين وأصحاب السلطان وأعوانهم من الكبراء - إذا كانت رعاية اللّه تحوط عباده المخلصين؟ ..