أنزل الله تعالى القرآن الكريم على البشرية جمعاء لهدايتها للتي هي أقوم، وإصلاح عقائدها، وترشيد سلوكها. وقد نزلت مجمل آياته ابتداء لتحقيق ما ذكر. لكن عددا منها نزل بسبب حادثة أو سؤال وهو ما يعرف بسبب النزول. والمعنى أن حادثة وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أو سؤال وجه إليه، فتنزل الآية أو الآيات ببيان ما يتصل بتلك الحادثة أو ذلك السؤال.
فالقرآن الكريم من حيث أسباب نزول آياته قسمان:
قسم نزل بدون سبب، وهو أكثر القرآن.
وقسم نزل مرتبطا بسبب من الأسباب. ومن هذه الأسباب:
أ- حدوث واقعة معينة فينزل القرآن الكريم بشأنها:
مثال ذلك: عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه، فاجتمعوا إليه فقال: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟...) الحديث ، فقال أبو لهب تباً لك ، إنما جمعتنا لهذا ، ثم قام ، فنزل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ
ب- أن يُسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء، فينزل القرآن ببيان الحكم:
مثال ذلك: عن عبد الله قال: إني مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة وهو متكئ على عسيب، فمر بنا ناس من اليهود فقالوا: سلوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه فيستقبلكم بما تكرهون، فأتاه نفر منهم فقالوا لـه: يا أبا القاسم ما تقول في الروح؟ فسكت، ثم قام، فأمسك وجهه بيده على جبهته، فعرفت أنه ينزل عليه فأنزل الله عليه: وَيَسْأَلُونَكَ عَن الرُّوحِ قُل الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِن الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا
2 . فائدة العلم بأسباب النزول.
أ- الاستعانة على فهم الآية وتفسيرها وإزالة الإشكال عنها، لما هو معلوم من الارتباط بين السبب والمسبب. قال الواحدي: لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها. وقال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب.
وقد أشكل على مروان بن الحكم قوله تعالى: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم . عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ. ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ : يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا.
قَالَ عُرْوَةُ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا. فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَة.ِ قَالَتْ : بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ ( لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا) . وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الْأَنْصَارِ : كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ. فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا.
ب . معرفة اسم النازل فيه وكشف الإبهام ، لئلا يشتبه المتهم بالبريء . عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ : كَانَ مَرْوَانُ عَلَى الْحِجَازِ اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ فَخَطَبَ فَجَعَلَ يَذْكُرُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لِكَيْ يُبَايَعَ لَهُ بَعْدَ أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا، فَقَالَ: خُذُوهُ. فَدَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا . فَقَالَ مَرْوَان ُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَالَّذِي قـَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي
فَقَالَتْ عَائِشَةُ : مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عُذْرِي .
ج . دفع توهم الحصر، قال الإمام الشافعي ما معناه في قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا.. : إن الكفار لما حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة - أي تصرفهم بقصد المخالفة - جاءت الآية مناقضة لغرضهم فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه.
3 . كيفية معرفة أسباب النزول :
لما كان سبب النزول أمراً واقعاً نزلت بشأنه الآية، كان من البَديهي ألا يدخل العلم بهذه الأسباب في دائرة الرأي والاجتهاد، لهذا قال الإمام الواحدي : "ولا يحل القول في أسباب النزول إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها" .
ومن هنا نفهم تشدد السلف في البحث عن أسباب النزول، حتى قال الإمام محمد بن سيرين: سألت عبيدَةَ عن آية من القرآن، فقال: اتق الله وقل سداداً، ذهَب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن .
وقد اتفق علماء الحديث على اعتبار قول الصحابي في سبب النزول، لأن أسباب النزول غير خاضعة للاجتهاد فيكون قول الصحابي حكمه الرفع، أما ما يرويه التابعون من أسباب النزول، فهو مرفوع أيضاً، لكنه مرسل، لعدم ذكر الصحابي.
لكن ينبغي الحذر والتيقظ، فلا نخلط بأسباب النزول ما ليس منها، فقد يقع على لسانهم قولهم: نزلت هذه الآية في كذا ويكون المراد موضوع الآية، أو ما دلت عليه من الأحكام.
4 . صيغة السبب :
يرد سبب النزول على ضربين :
أ . فقد يكون نصاً صريحاً في السببية إذا صرح الراوي بالسبب بأن يقول: سبب نزول هذه الآية كذا، أو يأتي الراوي بفاء التعقيب بعد ذكر الحادثة، بأن يقول: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا، فنزلت الآية.
مثال ذلك : عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ عَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ فِي بَنِي سَلِمَةَ مَاشِيَيْنِ، فَوَجَدَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا أَعْقِلُ شَيْئًا، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ. فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَنَزَلَتْ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ. .
ب . وقد تكون محتملة للسببية إذا قال الراوي: أحسب هذه الآية نزلت في كذا، أو ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في كذا، مثال ذلك ما حدث للزبير والأنصاري ونزاعهما في سقي الماء. ٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَبْد ِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرُّ. فَأَبَى عَلَيْهِ. فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ: (إسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ) فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ قَالَ: (إسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْر) فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ :فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.
5 . اختلاف روايات أسباب النزول.
لما كان سبيل الوصول إلى أسباب النزول هو الرواية والنقل، كان لا بد أن يعرض لها ما يعرض للرواية من صحة وضعف، واتصال وانقطاع... غير أنا هنا على ظاهرة هامة، يحتاج الدارس إليها، وهي اختلاف روايات أسباب النزول وتعددها .وذلك لا يخرج عن حالات ثلاث :
أ . صحة رواية وضعف أخرى فتقدم الصحيحة وترد الأخرى :
فإذا خالفت رواية الضعيف رواية غيره ، كانت روايته مردودة. ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى:
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ . فقد ثبت أنها في صلاة التطوع للراكب المسافر على الدابة. ففي صحيح مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ. قَالَ وَفِيهِ نَزَلَتْ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. . وأخرج الترمذي وضعّفه: أنها في صلاة من خفيت عليه القبلة فاجتهد فأخطأ القبلة، فإن صلاته صحيحة. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَال:َ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. قَالَ أَبُو عِيسَى:" هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَشْعَثَ السَّمَّانِ، وَأَشْعَثُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو الرَّبِيعِ السَّمَّانُ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى هَذَا، قَالُوا: إِذَا صَلَّى فِي الْغَيْمِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ اسْتَبَانَ لَهُ بَعْدَمَا صَلَّى أَنَّهُ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ." .
فالمعوّل عليه هنا في سبب النزول الأول لصحته.
ب . تعدد الأسباب والمُنَزَّل واحد:
وذلك بأن تقع عدة وقائع في أزمنة متقاربة، فتنزل الآية لأجلها كلها. وذلك واقع في مواضيع متعددة من القرآن. والعمدة في ذلك على صحة الروايات، فإذا صحت الروايات بعدة أسباب، ولم يكن ثمة ما يدل على تباعدها، كان ذلك دليلاً على أن الكل سبب لنزول الآية والآيات. مثال ذلك: آيات اللعان . فقد أخرج البخاري: أنها نزلت في هلال بن أمية لما قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ .. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِك). فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ. فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (الْبَيِّنَةَ وَإِلاحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ). فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَجَاءَ هِلَالٌ فَشَهِدَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ). ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ، فَمَضَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ(. فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ.) . وفي الصحيحين : أنها نزلت في عويمر العجلاني وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً. عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ عُوَيْمِرًا أَتَى عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي عَجْلَانَ فَقَالَ: كَيْفَ تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ سَلْ لِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. فَأَتَى عَاصِمٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ، فَسَأَلَهُ عُوَيْمِرٌ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا. قَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. فَجَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ). فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُلَاعَنَةِ بِمَا سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِه...
ج . أن يتعدد نزول النص لتعدد الأسباب :
قال الإمام الزركشي: وقد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه، وتذكيراً به عند حدوث سببه خوف نسيانه. ولذلك أمثلة، منها: ما ثبت في الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: ويسألونك عن الروح أنها نزلت لما سأله اليهود عن الروح وهو في المدينة. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُود، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوح.ِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ لَا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَه.ُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ. فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ. فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ قَالَ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا . ومعلوم أن هذه الآية في سورة " سبحان " - أي الإسراء- وهي مكية بالاتفاق، فإن المشركين لما سألوه عن ذي القرنين وعن أهل الكهف قبل ذلك بمكة، وأن اليهود أمروهم أن يسألوه عن ذلك، فأنزل الله الجواب. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِيَهُودَ أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ هَذَا الرَّجُلَ. فَقَالَ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. قَالَ: فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا....
ولا يقال: كيف يتعدد النزول بالآية الواحدة، وهو تحصيل حاصل؟ فالجواب: أن لذلك فائدة
جليلة ، والحكمة من هذا - كما قال الزركشي - أنه قد يحدث سبب من سؤال أو حادثة تقتضي نزول آية ، وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها، فتؤدى تلك الآية بعينها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً لهم بها، وبأنها تتضمن هذه .
6 . تعدد النزول مع وحدة السبب:
قد يتعدد ما ينزل والسبب واحد. ومن ذلك ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ . وعن أم سلمة قالت: يا رسول الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال، فأنزلت: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ .وعن أم سلمة أنها قالت: تغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ .