شرطه في الصحيح:
قال ابن طاهر في شروط الأئمة: اعلم أن البخاري ومسلماً ومن ذكرنا بعدهم، لم ينقل عن واحد منهم أنه قال: شرطتُ أن أخرج في كتابي ما يكون على الشرط الفلاني، وإنما يعرف ذلك من سبر كتبهم، فيعلم بذلك شرطُ كل رجلٍ منهم. واعلم أن شرط البخاري ومسلم أن يُخرجا الحديث المُتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلاً غير مقطوع، فإن كان للصحابي راويان فصاعداً فحسن، وإن يكن له إلا راوٍ واحد إذا صح الطريقُ إلى الراوي أخرجاه، إلا أن مسلماً أخرج أحاديث أقوامٍ ترك البخاري حديثهم، لشبهةٍ وقعت في نفسه، أخرج مسلم أحاديثهم بإزالة الشبهة، مثل حماد بن سلمة، وسهيل بن أبي صالح، وداود بن أبي هند، وأبي الزبير، والعلاء بن عبد الرحمن، وغيرهم.
قال العراقي في شرح التبصرة والتذكرة: وليس ما قاله بجيد, لأن النسائي ضعَّف جماعة أخرج لهم الشيخان أو أحدهما.
قال السيوطي في التدريب: وأجيب: بأنَهما أخرجا من أجمع على ثقته إلى حين تصنيفهما, ولا يقدح في ذلك تضعيف النسائي بعد وجود الكتابين. وقال شيخ الإسلام: تضعيف النسائي إن كان باجتهاده, أو نقله عن معاصر, فالجواب ذلك, وإن نقله عن متقدِّم فلا. قال: ويمكن أن يجاب بأن ما قاله ابن طاهر هو الأصل الذي بنيا عليه أمرهما, وقد يخرجان عنه لمرجح يقوم مقامه.
وقال الحاكم في «علوم الحديث»: وصف الحديث الصحيح أن يرويه الصحابي المشهور بالرِّواية عن النَّبي وله راويان ثقتان, ثم يرويه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور بالرواية, وله رواة ثقات.
وقال في «المدخل»: الدرجة الأولى من الصحيح اختيار البخاري ومسلم, وهو أن يروي الحديث عن رسول الله صحابي زائل عنه اسم الجهالة, بأن يروي عنه تابعيان عدلان, ثم يروي عنه التابعي المشهور بالرِّواية عن الصحابة, وله راويان ثقتان, ثم يرويه عنه من أتباع التابعين حافظ متقن, وله رواة من الطبقة الرابعة, ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظاً مشهورًا بالعدالة في روايته, ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا, كالشهادة على الشهادة.
فعمَّم في «علوم الحديث» شرط الصحيح من حيث هو, وخصص ذلك في «المدخل» بشرط الشيخين، وقد نقض عليه الحازمي ما ادعى أنه شرط الشيخين بما في الصحيح من الغرائب التي تفرد بها بعض الرواة.
وأجيب بأنه إنما أراد أن كل راو في الكتابين يشترط أن يكون له راويان, لا أنه يشترط أن يتفقا في رواية ذلك الحديث بعينه. قال أبو علي الغساني, ونقله عياض عنه: ليس المراد أن يكون كل خبر روياه يجتمع فيه راويان عن صحابيه, ثم عن تابعيه, فمن بعده, فإن ذلك يعز وجوده, وإنما المراد أن هذا الصَّحابي, وهذا التابعي قد روى عنه رجلان, خرج بهما عن حد الجهالة.
قال شيخ الإسلام: وكأن الحازمي فهم ذلك من قول الحاكم كالشهادة على الشهادة, لأن الشهادة يشترط فيها التعدد.
وأجيب: باحتمال أن يريد بالتشبيه بعض الوجوه لا كلها, كالاتصال, واللِّقاء, وغيرهما.
وقال أبو عبد الله ابن المواق: ما حمل الغساني عليه كلام الحاكم, وتبعه عليه عياض وغيره ليس بالبين, ولا أعلم أحدًا روى عنهما أنهما صرحا بذلك, ولا وجود له في كتابيهما, ولا خارجا عنهما, فإن كان قائل ذلك عرفه من مذهبهما بالتصفح, لتصرفهما في كتابيهما, فلم يُصب, لأن الأمرين معًا في كتابيها, وإن كان أخذه من كون ذلك أكثريًا في كتابيهما, فلا دليل فيه على كونهما اشترطاه, ولعلَّ وجود ذلك أكثريًا, إنما هو لأن من روى عنه أكثر من واحد, أكثر ممن لم يرو عنه إلا واحد من الرواة مُطلقًا, لا بالنسبة إلى ما خُرِّج له منهم في «الصحيحين», وليس من الإنصاف إلزامهما هذا الشرط, من غير أن يثبت عنهما ذلك, مع وجود إخلالهما به, لأنهما إذا صحَّ عنهما اشتراط ذلك, كان في إخلالهما به درك عليهما. قال شيخ الإسلام: وهذا كلامٌ مقبولٌ وبحثٌ قوي.
وقال في «مقدمة شرح البخاري»: ما ذكره الحاكم وإن كان منتقضا في حق بعض الصحابة الذين أخرج لهم, إلا أنه معتبر في حق من بعدهم, فليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له إلا راو واحد فقط.
وقال الحازمي ما حاصله: شرط البخاري أن يخرِّج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين المُلازمين لمن أخذوا عنه مُلازمة طويلة, وأنه قد يُخرج أحيانا عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن رووا عنه, فلم يلزموه إلا ملازمة يسيرة, وشرط مسلم أن يخرج حديث هذه الطبقة الثانية, وقد يخرج حديث من لم يسلم من غوائل الجرح, إذا كان طويل الملازمة لمن أخذ عنه, كحماد بن سلمة في ثابت البُناني وأيوب.
وقال المصنف - أي النووي- : إن المراد بقولهم: على شرطهما: أن يكون رجال إسناده في كتابيهما, لأنه ليس لهما شرط في كتابيهما, ولا في غيرهما.
وقال الحازمي في شروط الأئمة: مذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه وفيمن روى عنهم، وهم ثقات أيضا، وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت يلزمه إخراجه، وعن بعضهم مدخول لا يصح إخراجه إلا في الشواهد والمتابعات، وهذا باب فيه غموض، وطريقه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم. ولنوضح ذلك بمثال، وهو أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلا على طبقات خمس، ولكل طبقة منها مزية على التي تليها وتفاوت. فمن كان في الطبقة الأولى فهو الغاية في الصحة، وهو غاية مقصد البخاري والطبقة الثانية شاركت الأولى في العدالة، غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري، حتى كان فيهم من يُزامله في السفر ويُلازمه في الحضر، والطبقة الثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة فلم تمارس حديثه، وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى، وهم شرط مسلم..
منهج الإمام البخاري في صحيحه:
•1- يكرر الأحاديث ويقطعها: أ- لفائدة إسنادية أو متنية، ب- أو يكون الحديث عن صحابي فيعيده عن صحابي آخر، جـ- أو أن يسوقه بالعنعنة ثم يعيده بالتصريح بالسماع. قال ابن حجر في هدي الساري: الفصل الثالث: في بيان تقطيعه للحديث واختصاره وفائدة إعادته له في الأبواب وتكراره قال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي فيما رويناه عنه في جزء سماه جواب المتعنت: اعلم أن البخاري رحمه الله كان يذكر الحديث في كتابه في مواضع ويستدل به في كل باب بإسناد آخر ويستخرج طريق واحدة فيتصرف حينئذ فيه، فيورده في موضع موصولا وفي موضع معلقا ويورده تارة تاما وتارة مقتصرا على طرفه الذي يحتاج إليه في ذلك الباب، فإن كان المتن مشتملا على جمل متعددة لا تعلق لإحداها بالأخرى فإنه منه بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه وقلما يورد حديثا في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد وإنما يورده من طريق أخرى لمعان نذكرها والله أعلم بمراده منها فمنها أنه يخرج الحديث عن صحابي ثم يورده عن صحابي آخر والمقصود منه أن يخرج الحديث عن حد الغرابة وكذلك يفعل في أهل الطبقة الثانية والثالثة وهلم جرا إلى مشايخه فيعتقد من يرى ذلك من غير أهل الصنعة أنه تكرار وليس كذلك لاشتماله على فائدة زائدة...
•2- التزم استنباط الفوائد الفقهية والنكت الحكمية، فاستخرج بفهمه الثاقب من المتون معاني كثيرة فرَّقها في أبوابه بحسب المناسبة، واعتنى فيها بآيات الأحكام، ومن ثم أخلى كثيراً من الأبواب من ذكر إسناد الحديث واقتصر على قوله: فلان عن النبي ، وقد يذكر المتن بغير إسناد، وقد يورده معلقاً لقصد الاحتجاج لما ترجم له وأشار للحديث لكونه معلوماً أو سبق قريباً..
•3- تراجم البخاري في صحيحه: بين ابن حجر في هدي الساري أن تراجم البخاري في صحيحه على نوعين:
•أ-ظاهرة:
وهي أن تكون دالة بالمطابقة لما يورد في مضمونها.. وقد تكون بلفظ المترجم له أو بعضه أو بمعناه.
•ب-خفية:
وهي التي لا تدرك مطابقتها لمضمون الباب إلا بالنظر الفاحص والتفكير الدقيق.. وهذا الموضع هو معظم ما يشكل من تراجم هذا الكتاب، ولهذا اشتهر من قول جمع من الفضلاء فقه البخاري في تراجمه وأكثر ما يفعل البخاري ذلك إذا لم يجد حديثا على شرطه في الباب ظاهر المعنى في المقصد الذي ترجم به ويستنبط الفقه منه، وقد يفعل ذلك لغرض شحذ الأذهان في إظهار مضمره واستخراج خبيئه، وكثيرا ما يفعل ذلك أي هذا الأخير حيث يذكر الحديث المفسر لذلك في موضع آخر متقدما أو متاخرا، فكأنه يحيل عليه ويومئ بالرمز والإشارة إليه...
•4- تنوع تراجم البخاري: قال صديق حسن خان في الحطة(ص302): وجملة تراجم أبوابه تنقسم أقساماً؛ منها أنه يترجم بحديث مرفوع ليس على شرطه ويذكر في الباب حديثاً شاهداً على شرطه، ومنها أنه يترجم بحديث مرفوع ليس على شرطه لمسألة استنبطها من الحديث بنحو من الاستنباط من نصه أو إشارته أو عمومه أو إيمائه أو فحواه، ومنها أنه يترجم بمذهب ذهب إليه ذاهبٌ قبله، ويذكر في الباب ما يدل عليه بنحو من الدلالة لو يكون له شاهداً في الجملة من غير قطعٍ بترجيح ذلك المذهب فيقول: باب من قال كذا. ومنها أنه يترجم بمسألة اختلفت فيها الأحاديث، فيأتي بتلك الأحاديث على اختلافها، ليقرب إلى الفقيه من بعده أمرها، مثاله: باب خروج النساء إلى البراز. جمع فيه حديثين مختلفين، ومنها أنه قد تتعارض الأدلة، ويكون عند البخاري وجه تطبيق بينها، يحمل كل واحد على محمل فيترجم بذلك المحمل، إشارة إلى التطبيق، مثاله: باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان. ذكر فيه حديث: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". ومنها أنه قد يجع في الباب أحاديث كثيرة كل واحد منها يدل على الترجمة، ثم يظهر له في حديث واحد فائدة أخرى سوى الفائدة المترجم عليها، فيعلم ذلك الحديث بعلامة الباب، وليس غرضه أن الباب الأول قد انقضى بما فيه وجاء الباب الآخر برأسه، ولكن قوله: "باب" هنالك بمنزلة ما يكتب أهل العلم على الفائدة المهمة لفظ: تنبيه أو لفظ فائدة أو لفظ قف... ومنها أنه قد يكتب لفظ: باب مكان قول المحدثين: وبهذا الإسناد، وذلك حيث جاء حديثان بإسناد واحد، كما يكتب حيث جاء حديث واحد بإسنادين، مثاله: باب ذكر الملائكة؛ أطال فيها الكلام حتى أخرج حديث:" الملائكة يتعاقبون ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" برواية شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، ثم كتب: باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء آمين...الحديث" ثم أخرج حديث:" إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة" ... ومنه أنه يذهب في كثير من التراجم إلى طريقة أهل السير في استنباطهم خصوصيات الوقائع والأحوال من إشارات طرق الحديث، وربما يتعجب الفقيه لعدم ممارسة هذا الفن، لكن أهل السير لهم اعتناء شديد بمعرفة تلك الخصوصيات...
•5- كثيراً ما يترجم للمسائل الخلافية بصيغة السؤال ويختار القول الراجح، من خلال ما يورده من أحاديث في الترجمة مثل ترجمته في كتاب العلم بقوله: "باب متى يصح سماع الصغير ؟" وأورد فيه حديثين :
أولهما: حديث ابن عباس قال: " أقبلت راكباً على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله يصلي بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف، فلم ينكر لك علي ". وثانيهما: حديث محمود بن الربيع. قال : " عقلت من النبي مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو ". قال ابن حجر في الفتح: ومقصود الباب الاستدلال على أن البلوغ ليس شرطاً في التحمل.
المعلقات في صحيح البخاري:
قال الحافظ في هدي الساري: والمراد بالتعليق ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر، ولو إلى آخر الإسناد، وتارة يجزم به كـ قال، وتارة لا يجزم به كـ يذكر، فأما المعلق من المرفوعات فعلى قسمين: أحدهما ما يوجد في موضع آخر من كتابه هذا موصولا وثانيهما ما لا يوجد فيه إلا معلقا، فالأول قد بينا السبب فيه في الفصل الذي قبل هذا وأنه يورده معلقا حيث يضيق مخرج الحديث، إذ من قاعدته أنه لا يكرر إلا لفائدة، فمتى ضاق المخرج واشتمل المتن على أحكام؛ فاحتاج إلى تكريره فإنه يتصرف في الإسناد بالاختصار خشية التطويل. والثاني: وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقا، فإنه على صورتين: إما أن يورده بصيغة الجزم، وإما أن يورده بصيغة التمريض؛ فالصيغة الأولى يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لكن يبقى النظر فيمن أبرز من رجال ذلك الحديث، فمنه ما يلتحق بشرطه، ومنه ما لا يلتحق، أما ما يلتحق؛ فالسبب في كونه لم يوصل إسناده إما لكونه أخرج ما يقوم مقامه فاستغنى عن إيراد هذا مستوفى السياق ولم يهمله بل أورده بصيغة التعليق طلبا للاختصار، وإما لكونه لم يحصل عنده مسموعا أو سمعه وشك في سماعه له من شيخه، أو سمعه من شيخه مذاكرة، فما رأى أنه يسوقه مساق الأصل، وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه، فمن ذلك أنه قال في كتاب الوكالة: قال عثمان بن الهيثم: حدثنا عوف، حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله بزكاة رمضان الحديث بطوله، وأورده في مواضع أخرى منها في فضائل القرآن وفي ذكر إبليس، ولم يقل في موضع منها حدثنا عثمان: فالظاهر أنه لم يسمعه منه، وقد استعمل المصنف هذه الصيغة فيما لم يسمعه من مشايخه في عدة أحاديث، فيوردها عنهم بصيغة قال فلان، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبينهم ... وأما ما لا يلتحق بشرطه فقد يكون صحيحا على شرط غيره وقد يكون حسنا صالحا للحجة وقد يكون ضعيفا لا من جهة قدح في رجاله بل من جهة انقطاع يسير في إسناده قال الإسماعيلي قد يصنع البخاري ذلك إما لأنه سمعه من ذلك الشيخ بواسطة من يثق به عنه وهو معروف مشهور عن ذلك الشيخ أو لأنه سمعه ممن ليس من شرط الكتاب فنبه على ذلك الحديث بتسمية من حدث به لا على جهة التحديث به عنه قلت والسبب فيه أنه أراد أن لا يسوقه مساق الأصل فمثال ما هو صحيح على شرط غيره قوله في الطهارة وقالت عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه وهو حديث صحيح على شرط مسلم... ومثال ما هو حسن صالح للحجة قوله فيه: وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده الله أحق أن يستحيا منه من الناس وهو حديث حسن مشهور عن بهز؛ أخرجه أصحاب السنن.. ومثال ما هو ضعيف بسبب الانقطاع لكنه منجبر بأمر آخر قوله في كتاب الزكاة: وقال طاوس: قال معاذ بن جبل لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس... فإسناده إلى طاوس، صحيح إلا أن طاوسا لم يسمع من معاذ... والصيغة الثانية: وهي صيغة التمريض لا تستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لكن فيه ما هو صحيح، وفيه ما ليس بصحيح.. فأما ما هو صحيح فلم نجد فيه ما هو على شرطه إلا مواضع يسيره جدا، ووجدناه لا يستعمل ذلك إلا حيث يورد ذلك الحديث المعلق بالمعنى؛ كقوله في الطب: ويذكر عن بن عباس عن النبي r في الرقى بفاتحة الكتاب فإنه أسنده في موضع آخر... وأما مال لم يورده في موضع آخر مما أورده بهذه الصيغة فمنه ما هو صحيح إلا أنه ليس على شرطه ومنه ما هو حسن ومنه ما هو ضعيف فرد إلا أن العمل على موافقته ومنه ما هو ضعيف فرد لا جابر له... وقد تبين مما فصلنا به أقسام تعاليقه، أنه لا يفتقر إلى هذا الحمل، وأن جميع ما فيه صحيح باعتبار أنه كله مقبول ليس فيه ما يرد مطلقا إلا النادر فهذا حكم المرفوعات، وأما الموقوفات فإنه يجزم منها بما صح عنده ولو لم يكن على شرطه، ولا يجزم بما كان في إسناده ضعف أو انقطاع إلا حيث يكون منجبرا؛ إما بمجيئه من وجه آخر، وإما بشهرته عمن قاله. وإنما يورد ما يورد من الموقوفات؛ من فتاوى الصحابة والتابعين ومن تفاسيرهم لكثير من الآيات، على طريق الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل التي فيها الخلاف بين الأئمة...
قلت: وقد أفرد الحافظ ابن حجر التعاليق التي في صحيح البخاري في مصنف مستقل، قال عنه في هدي الساري: وقد بسطت ذلك جميعه في مصنف كبير سميته تغليق التعليق، ذكرت فيه جميع أحاديثه المرفوعة وآثاره الموقوفة وذكرت من وصلها بأسانيدي إلى المكان المعلق، فجاء كتابا حالفا وجامعا كاملا لم يفرده أحد بالتصنيف.
(وقد طبع الكتاب في أربع مجلدات)
الانتقادات على البخاري والرد عليها:
وقد تكلم الحافظ بن حجر في هدي الساري عن الانتقادات الموجهة إلى الصحيحين فقال: الفصل الثامن: في سياق الأحاديث التي انتقدها عليه حافظ عصره أبو الحسن الدارقطني وغيره من النقاد، وإيرادها حديثاً حديثا على سياق الكتاب وسياق ما حضر من الجواب عن ذلك، والجواب عنه على سبيل الإجمال: أن نقول لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك، حتى كان يقول ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني ومع ذلك فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول: دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه. وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعا وروى الفربري عن البخاري قال: ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته... فإذا عرف وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما، يكون قوله معارضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما، فيندفع الاعتراض من حيث الجملة...
ثم قال في النكت(1/381): (والكلام على هذه الانتقادات من حيث التفصيل من وجوه؛ منها ما هو مندفع بالكلية ومنها ما قد يندفع:
•1- فمنها الزيادة التي تقع في بعض الأحاديث إذا انفرد بها ثقة من الثقات ولم يذكرها من هو مثله أو أحفظ منه، فاحتمال كون هذا الثقة غلط، ظن مجرد وغايتها أنها زيادة ثقة فليس فيها منافاة لما رواه الأحفظ والأكثر فهي مقبولة.
•2- ومنها الحديث المروي من حديث تابعي مشهور عن صحابي سمع منه، فيعلل بكونه روي عنه بواسطة، كالذي يروى عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ويروى عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، وأن مثل هذا لا مانع أن يكون التابعي سمعه بواسطة ثم سمعه بدون ذلك الواسطة... إلى أن قال:وهذا إنما يطرد حيث يحصل الاستواء في الضبط والإتقان.
•3- ومنها ما يشير صاحب الصحيح إلى علته كحديث يرويه مسندا ثم يشير إلى أنه يروى مرسلا فذلك مصير منه إلى ترجيح رواية من أسنده على من أرسله.
•4- ومنها ما تكون مرجوحة بالنسبة إلى صحته كالحديث الذي يرويه ثقات متصلا ويخالفهم ثقة فيرويه منقطعا. أو يرويه ثقة متصلا ويرويه ضعيف منقطعا. 1.هـ.
الكتب التي اعتنت بصحيح البخاري:
1- المؤلفات في رجال البخاري:
الكتب التي ترجمت لرجال البخاري في صحيحه كثيرة؛ منها ما ألف في الجمع بين رجال الكتب الستة، كالمعجم المشتمل لابن عساكر والكمال لعبد الغني المقدسي وتهذيب الكمال للمزي وتهذيب التهذيب لابن حجر وغيرها، ومنها ما ترجم لرجال البخاري ومسلم فقط؛ كرجال البخاري ومسلم للدارقطني والجمع بين رجال الصحيحين لأبي نصر الكلاباذي والجمع بين رجال الصحيحين لمحمد بن طاهر المقدسي، ومنها ما ترجم لرجال البخاري على سبيل الانفراد ، مثل:
•1- الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد الذين أخرج لهم البخاري في صحيحه، لأبي نصر أحمد بن محمد الكلاباذي.
•2- التعديل والتجريح لمن أخرج له البخاري في الصحيح، لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي.
•3- أسماء من روى عنهم البخاري في الصحيح، لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني.
•4- تسمية المشايخ الذين روى عنهم البخاري في صحيحه، لأبي عبد الله بن منده.
•5- رفع التماري فيمن تكلم فيه من رجال البخاري، لأبي بكر محمد بن إسماعيل بن خلفون الأندلسي.
•6- فك أغراض البخاري المبهمة في الجمع بين الحديث والترجمة لمحمد بن منصور بن حمامة السجلماسي
2- شروح صحيح البخاري:
•1- شرحه الإمام أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي (ت 386هـ)، واسم شرحه"أعلام الحديث"
•2- وشرحه محمد بن يوسف الكرماني (ت 788هـ) في كتابه " الكواكب الدراري ".
•3- وشرحه الحافظ ابن رجب الحنبلي، في كتابه "فتح الباري"
•4- وشرحه الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني (ت 852هـ) في كتابه " فتح الباري " وهو أجل شروح البخاري.
•5- وبدر الدين العيني (ت 855هـ) في كتابه " عمدة القاري ".
•6- وأحمد بن محمد بن أبي بكر القسطلاني (ت 923هـ) في كتابه " إرشاد الساري ".
وقد ذكر فؤاد سزكين في كتابه " تاريخ التراث العربي " (56) شرحاً. للجامع الصحيح، بعضها مخطوط وبعضها قد طبع عدة مرات كالكتب السابقة.
وقد شرح أبوابه ابن المنير في" المتواري على تراجم أبواب البخاري"، والشاه ولي الله الدهلوي في" تراجم أبواب البخاري" ، ومحمد زكريا الكاندهلوي في" شرح تراجم أبواب البخاري"، وكلها مطبوعة.
3- المستخرجات:
1- مستخرج أبي بكر الإسماعيلي. 2- مستخرج أبي أحمد الغطريفي. 3- مستخرج أبي عبد الله الضبي المعروف بـ(ابن أبي ذهل). 4- مستخرج أبي عبد الله النيسابوري المعروف بـ(بابن الأخرم). 5- مستخرج أبي بكر الأصبهاني. 6- مستخرج أبي نعيم الأبهاني.7- مستخرج أبي بكر البرقاني. 8- مستخرج أبي ذر الهروي. وغيرها
4- الأطراف: 1- أطراف الصحيحين لأبي مسعود الدمشقي. 2- أطراف الصحيحين لأبي نعيم الأصبهاني. وغيرها.
5- من الدراسات حول صحيح البخاري أو مؤلفه:
"الإمام البخاري سيد الحفاظ والمحدثين" للشيخ تقي الدين الندوي المظاهري
المراجع :
1- هدي الساري مقدمة فتح البخاري لابن حجر العسقلاني. 2- شروط الأئمة الستة لابن طاهر المقدسي وشروط الأئمة الخمسة للحازمي، كلاهما بتحقيق أبي غدة. 3- النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر. 4- تدريب الراوي للسيوطي. 5- الحطة في ذكر الصحاح الستة لصديق حسن خان القنَّوجي. 6- إتحاف القاري بمعرفة جهود وأعمال العلماء على صحيح البخاري، لمحمد عصام الحسيني ط: دار اليمامة. 7- شرح النووي على صحيح مسلم. 8- سير أعلام النبلاء للذهبي، 9- وتاريخ الإسلام له.