نظرا لعدم وقوفنا-في المقال الأول "نشأة أصول الفقه"- على مدرستي أهل الحديث بالحجاز ،وأهل الرأي بالعراق،بشكل مفصل، وددت أن أكتب بعض الفقرات عن هاتين المدرستين ، لما لهما من علاقة وطيدة بنشأة أصول الفقه.
ليعلم طالب علوم الشرعية أن تفرق الصحابة في الأمصار أحدث حركة علمية في كل مصر ، تفاوتت في منهجها بتفاوت هؤلاء الصحابة في الإجتهاد والفتوى ،بل كان منهم أهل الأثر الوقافون عند ظواهر النصوص ،كابن عمر وزيد بن ثابت ،من فقهاء أهل المدينة .
ثم أهل الرأي والنظر الذين كانوا إذا غابت عنهم الآثار أفتوا بالمعاني والقياس كابن مسعود الذي ورث علم عمر وكاد لا يخالفه في شيء،ومن هاهنا نشأت مدرسة أهل الحديث بالحجاز ،ومدرسة أهل الرأي بالعراق .
1- مدرسة أهل الحديث بالحجاز
كان للمدينة منزلة خاصة باعتبارها دارا للهجرة التي نزل فيها التشريع ، وشهدت ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا ،وعاش فيها الخلفاء الراشدون ،فأصبحت مهد السنة، ومنبع الحديث،وملتقى الصحابة وكان أهلها من أثبت الناس في الفقه وأشدهم تمسكا بالسنن ووقوفا عند الآثار، فلم يكونوا يخوضون في الرأي إلا إماء أو اقتضاء.-اقتضاء النص: هو ما يدل عليه النص من طريق المعنى الذي لايستقيم الكلام إلا بتقريره مثاله قوله تعالى
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]واسأل القرية) يوسف82 . لايصح الكلام إلا بتقدير وهو :واسأل أهل القرية- ومن شيوخها الأوائل :زيد بن ثابت ،وعبد الله بن عمر، رضي الله عنهم جميعا .وقد تأثر بهذا المنهج تلاميذهم الذين حملوا لواء العلم بهذه المدرسة ،كابن المسيب ،وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ،وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود،وزيد بن خارجة وهؤلاء هم "الفقهاء السبعة " كانوا يكرهون الخوض في الرأي ويهابون الفتيا ،كانوا إذا سئلوا عن شيء،فإن عرفوا فيه أية أو حديثا أفتوا به ،وإلا توقفوا.ومن معالم نشأة المدرسة : - تأثر فقهائها بمنهج ابن عمر وزيد بن ثابت، في الوقوف على الأحاديث والآثار ، وتجنبهم الأخذ بالرأي وإعمال القياس .
- كون المدينة تتوفر على ثروة كبيرة ،من أحاديث وأثار تفي بحاجتهم في الإستدلال وتغنيهم عن إعمال الرأي.
- ما كان عليه أهل المدينة من بساطة الحياة وقلة النوازل ، ولم يتعرضوا لتأثير الحضارة الفارسية واليونانية مما أدى إلى تفريع المسائل ،وإعمال الرأي لحل النوازل .
2-مدرسة أهل الرأي بالعراق
من المعلوم أن عمر بن الخطاب كان أكثر الصحابة فقها للنص واجتهادا في فهمه وإقداما على إبداء الرأي فيه. والمشكلات التي اعترضت الصحابة واجتهدوا فيها تعطي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الميزة في أكثر من موضع وان كان قد حرص على استشارة الصحابة والتريث في الأمور.
وقد كان ابن مسعود رائد هذا الإتجاه ،معجبا بمنهج عمر،وكان يقول "لو أن الناس سلكوا واديا وشعبا ،وسلك عمر واديا وشعبا لسلكت وادي عمر وشعبه"وكان يقول( إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم ) ولهذا اعتبرت مدرسة ابن مسعود بالعراق نواة لمدرسة الرأي ،وآل ذلك إلى ظهورها على يد تلاميذه" كعلقمة ،والأسود بن يزيد ،ومسروق بن الأجدع ،وعبيد بن عمرو السلماني ،وشريح القاضي،والحارث الأعور" وكان هؤلاء يعرفون بالفقهاء الستة.
فلم يكن أهل العراق يهابون الفتوى فيما لانص فيه،لأنهم فهموا أن الشريعة معقولة المعنى
وترجع أسباب توسع أهل العراق في الرأي إلى الأمور التالية :
- تأثرهم بابن مسعود الذي كان على منحى عمر بن الخطاب في الفتوى والإجتهاد.
- قلة رواية الحديث في العراق بالمقارنة إلى ما لدى أهل الحجاز،-موطن الرسول صلى الله عليه وسلم -
- كان العراق موطن الرفض والتشيع ،ومسرحا للفتن والصراعات السياسية مما جعله مهد الوضع والكذب حتى سماه المحدثون" دار الضرب "وهذا ما جعل علماءه يقلون من رواية الحديث ،تحرزا من الوقوع في الأحاديث الموضوعة.
- كان العراق موطن من أسلم من العجم بالإضافة إلى اتصاله بالحضارة الفارسية اتصالا وثيقا ،وذلك من شأنه أن يحدث كثيرا من المسائل الجزئية، والمشاكل التي تحتاج إلى إعمال الرأي ،وكثرة القياس.